يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء . وهذا قول جمهور العلماء ، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة:أن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع .
وزعم بعضهم:أن سارة امرأة الخليل ، وأم موسى ، ومريم أم عيسى نبيات ، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبقوله:( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) الآية . [ القصص:7] وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى - عليه السلام - وبقوله تعالى:( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) [ آل عمران:42 ، 43] .
وهذا القدر حاصل لهن ، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك ، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف ، فهذا لا شك فيه ، ويبقى الكلام معه في أن هذا:هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا ؟ الذي عليه [ أئمة] أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم:أنه ليس في النساء نبية ، وإنما فيهن صديقات ، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال:( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ) [ المائدة:75] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية ، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام ، فهي صديقة بنص القرآن .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله:( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) أي:ليسوا من أهل السماء كما قلتم . وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى:( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) الآية [ الفرقان:20] وقوله تعالى:( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) [ الأنبياء:8 ، 9] وقوله تعالى:( قل ما كنت بدعا من الرسل ) الآية [ الأحقاف:9] .
وقوله:( من أهل القرى ) المراد بالقرى:المدن ، لا أنهم من أهل البوادي ، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا . وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعا ، وألطف من أهل سوادهم ، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي; ولهذا قال تعالى:( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) [ التوبة:97] .
وقال قتادة في قوله:( من أهل القرى ) لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود .
وفي الحديث الآخر:أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة ، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"لقد هممت ألا أتهب هبة إلا من قرشي ، أو أنصاري ، أو ثقفي ، أو دوسي ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الأعمش:هو [ ابن] عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ".
وقوله:( أفلم يسيروا في الأرض ) [ يعني:هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض] ( فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) أي:من الأمم المكذبة للرسل ، كيف دمر الله عليهم ، وللكافرين أمثالها ، كقوله:( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج:46] ، فإذا استمعوا خبر ذلك ، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين ، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه; ولهذا قال تعالى:( ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ) أي:وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا ، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضا ، وهي خير لهم من الدنيا بكثير ، كما قال تعالى:( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ غافر:50 ، 51] .
وأضاف الدار إلى الآخرة فقال:( ولدار الآخرة ) كما يقال:"صلاة الأولى "و "مسجد الجامع "و "عام الأول "و "بارحة الأولى "و "يوم الخميس ". قال الشاعر:
أتمدح فقعسا وتذم عبسا ألا لله أمك من هجين ولو أقوت عليك ديار عبس
عرفت الذل عرفان اليقين