{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون109} .
التفسير:
109{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ...} .
تمهيد:
تختم سورة يوسف بهذه الآيات الأخيرة من السورة ؛تعقيبا على سورة يوسف وقصته ،التي هي محل العظة والاعتبار في ألوان متعددة ،منها: إلقاؤه في الجب ،ثم صيرورته في بيت العزيز ،ثم تعرضه للفتنة والامتحان ،ونجاحه وسلامته ،ثم إلقاؤه في السجن ،وتفسيره للرؤيا ،ثم انتقاله وزيرا مطلق اليد ،ونجاحه في إدارة أمور البلاد ،وتسامحه مع إخوته ،وتعظيمه أبويه ،وأخيرا تحقيق الرؤيا التي رآها يوسف .
ومعنى الآية:
إن هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم برسالة السماء ،كانوا رجالا من البشر تميزوا باختيار الله لهم ؛لحمل رسالته:{الله أعلم حيث يجعل رسالته} . ( الأنعام:124 ) ،كما شرفهم الله بالوحي إليهم ،فلم يكونوا ملائكة ،وإنما كانوا رجالا في البشر نزل عليهم الوحي ،قال تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ} . ( فصلت:6 ) ،وقوله سبحانه:{وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} . ( الفرقان:20 ) .
{من أهل القرى} .أي: من أهل المدن ،والبلاد العامرة الكثيرة المباني ،لا من أهل البادية ؛فهم في العادة أهل جفاء وغلظة ،على حد قوله تعالى:{الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم} . ( التوبة:97 ) .
جاء في تفسير القاسمي:
والقرى: جمع قرية وهو على ما في( القاموس ): المصر الجامع ،وفي( كفاية المتحفظ ): القرية: كل ما اتصلت به الأبنية ،واتخذ قرارا ،وتقع على المدن وغيرها . اه .
قال ابن كثير:
والمراد بالقرى هنا: المدن ،أي: لا أنهم من أهل البوادي الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا ،وهذا هو المعهود المعروف: أن أهل المدن أرق طباعا ،ألطف من أهل بواديهم ،وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي ،ولهذا قال تعالى:{الأعراب أشد كفرا ونفاقا ...} الآية .قال قتادة: إنما كانوا من أهل القرى ؛لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود . 49 .
ونقل عن الحسن أنه قال: "لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن "50 .
{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} .
أفلم يعتبروا بسنن الله في الخلق ،ويسيروا في الأرض بأجسامهم أو بعقولهم وأفكارهم ،فيتأملوا وينظروا:{كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} .أي: من المكذبين من أمثال فرعون وهامان وعاد وثمودكيف أهلك الله الكافرين ونجى المؤمنين .والاستفهام هنا ؛للتقريع والتوبيخ ،وفيه حث على النظر والتدبر والتفكر ؛ليكون ذلك سبيلا إلى الهداية .
{ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} .
أي: إن العبرة التي يستخلصها العقلاء من وقوفهم على هلاك الظالمين ونجاة المؤمنين: أن الدنيا متاع قليل ،وأن الآخرة هي الحياة الدائمة للذين اتقوا ربهم وتزودوا لهذه الدار بالعمل الصالح .
{أفلا تعقلون} .أفلا تستخدمون عقولكم ؛فتدركون أن الإيمان أبقى وأنفع ،وفيه تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضالين ،الذي عطلوا عقولهم ؛فلم يهتدوا بها إلى خير ،ولم يتعرفوا بها على حق ،وذلك هو الخسران المبين .