يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى:( وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة:214] ، وفي قوله:( كذبوا ) قراءتان ، إحداهما بالتشديد:"قد كذبوا "، وكذلك كانت عائشة - رضي الله عنها - تقرؤها ، قال البخاري:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح ، عن ابن شهاب قال:أخبرني عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله:( حتى إذا استيئس الرسل ) قال:قلت:أكذبوا أم كذبوا ؟ فقالت عائشة:كذبوا . فقلت:فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت:أجل ، لعمري لقد استيقنوا بذلك . فقلت لها:وظنوا أنهم قد كذبوا ؟ قالت معاذ الله ، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت:فما هذه الآية ؟ قالت:هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، ( حتى إذا استيئس الرسل ) ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك .
حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري قال:أخبرنا عروة ، فقلت:لعلها قد كذبوا مخففة ؟ قالت:معاذ الله . انتهى ما ذكره .
وقال ابن جريج أخبرني ابن أبى مليكة:أن ابن عباس قرأها:( وظنوا أنهم قد كذبوا ) خفيفة ، قال عبد الله هو ابن مليكة:ثم قال لي ابن عباس:كانوا بشرا وتلا ابن عباس:( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) [ البقرة:214] ، قال ابن جريج:وقال لي ابن أبي مليكة:وأخبرني عروة عن عائشة:أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت:ما وعد الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم . قال ابن أبي مليكة في حديث عروة:كانت عائشة تقرؤها "وظنوا أنهم قد كذبوا "مثقلة ، للتكذيب .
وقال ابن أبي حاتم:أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال:جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال:إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية:( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) فقال القاسم:أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول:( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) تقول:كذبتهم أتباعهم . إسناد صحيح أيضا .
والقراءة الثانية بالتخفيف ، واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس ما تقدم ، وعن ابن مسعود ، فيما رواه سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قرأ:( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) مخففة ، قال عبد الله:هو الذي تكره .
وهذا عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - مخالف لما رواه آخرون عنهما . أما ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله:( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال:لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم ، جاءهم النصر على ذلك ، ( فنجي من نشاء )
وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله .
وقال ابن جرير:حدثني المثنى ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي حرة الجزري قال:سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له:يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة:( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) قال:نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا . فقال الضحاك بن مزاحم:ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا .
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر:أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال:فرج الله عنك كما فرجت عني .
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جبر ، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها:"وظنوا أنهم قد كذبوا "، بفتح الذال . رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله:( وظنوا أنهم قد كذبوا ) إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي:وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر .
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير:حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن جحش بن زياد الضبي ، عن تميم بن حذلم قال:سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية:( حتى إذا استيأس الرسل ) من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا ، بالتخفيف .
فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر بالكلية ، ورده وأباه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم .