{ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون3} .
بعد أن بين سبحانه وتعالى قدرته في رفع السماء بغير عمد ترونها ، وما فيها من كواكب ونجوم رمز إليها بأجلها شأنا ، وهي الشمس مصدر نورها ، والقمر ، وكان رمزا لمن استمد نوره منها ، وهو من أكبر أتباعها . أنزل آياته إلى الأرض وهي قريبة من الأنظار غير بعيدة عنها ، وفيها يمرحون ، ومن خيراتها يتخذون نماءهم ؛ ولذا قال:{ وهو الذي مد الأرض} ، أي بسطها طولا وعرضا بحيث يسهل افتراشها أو الانتقال في أجزائها شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا وليس ذلك دليلا على أنها غير كروية ، بل كونها كروية ثبت من الليل والنهار ، ومن أدلة عقلية كثيرة وكرويتها لا تنافي مدها ، وجعلها مفترشا لابن آدم ، وذلك لكبرها وامتداد أطرافها .
ثم أخذ يبين سبحانه ما جعل فيها ، فقال تعالى:{ وجعل فيها رواسي} أي جعل فيها جبالا كالأوتاد لها ، كما قال تعالى:{ والجبال أوتادا 7}( النبأ ) ورواسي جمع راس ، وقال البيضاوي وغيره:إنها جمع راسية ، وجاءت التاء لأنها وصف لأجبل . ونحن نرى أن ذلك تكلف لا داعي إليه ؛ لأنها جمع( راس ) . وهو وصف لما لا يفعل وفواعل تجمع ما تكون وصفا لما لا يفعل ،و( راس ) من رسا إذا ثبت ،ف{ رواسي} معناها ثوابت مستقرة كأنها أثقال تزن الأرض ، وعطف على الرواسي الأنهار{ وأنهارا} للتقابل بينهما ؛ لأن الجبال أحجار أو نحوها ، والأنهار ماء سهل فهما متقابلات في الجملة ؛ ولأن أودية الماء تكون بجوار الجبال وتتخذ منها ، أو تتكون مياه الأنهار ما ينحدر من الجبال ، أو تنزل الأمطار على الجبال ، ثم تنحدر حتى تجري في الأنهار ، كما ترى في نهر النيل ، إذ إنه تكون من البحيرات التي ترفدها ، بمائها ثم تنحدر المياه من جبال الحبشة ، فيكون فيضانه بخيراته التي أفاض الله بها على عباده ، فأوجد الخصب في وادي النيل ، وأخصب مصر من وقت أن جري فيها .
وأنه من وراء الأنهار يكون إنبات النبات ، وإثمار الأشجار ، فإن هذا كله يكون من الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي ، وكذا قال سبحانه وتعالى بعد الأنهار وجريانها وتحدرها من الجبال:{ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين} ، أي جعل سبحانه وتعالى صنفين متقابلين كالحلو والحامض ، والأسود والأبيض ، وجعل منها زوجين أي الذكر والأنثى ، فمنه الذكر الذي يلقح بما تحمله من البذر الرياح اللواقح ، والأنثى التي تحمل بذر الذكر ، كما تحمل أنثى الحيوان بذر الذكر في رحمها .
ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن معنى التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى ، والتقابل في الألوان ، والتقابل في الطعم ، والتقابل في الصغر والكبر ، وهذا كله في أرض واحدة ، وكان مقتضى اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئا واحدا في لونه أوطعمه ، أو ذكورته أو أنوثته ، أو صغره أو كبره ، ولكن تعددت وتخالفت ، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
ثم بين سبحانه بعض العلاقة بين السماء والأرض ، وهي الليل والنهار ، فهما من دوران الأرض حول الشمس ، وكل يدور في مداره ، فبدوران الأرض يكون الليل والنهار ، وبدوران الشمس تكون الفصول الأربعة . ولقد قال تعالى:{ يغشي الليل النهار} بسكون( الغين ) وهناك قراءة بفتح الغين وتشديد الشين من التغشية ، فأما الأصلية:فهي تشبيه الظلمة بالثوب الأسود ، والضوء بالجسم الأبيض ، وتبع ذلك أن شبه النهار بأنه يغشي الليل .
وإن هذا من اتصال الشمس بالأرض ، أي اتصال الأرض بالسماء .
هذه آيات الله تعالى ، وبيناته ، وخلقه ، وتكوينه ، وهي تدل على أنه فعل فاعل مختار لما يريد ، وأن الأشياء لا تنشأ عنه سبحانه نشوء المعلول عن علته ، كما يقول الفلاسفة ، ويسميهم الناس حكماء وليسوا كذلك ؛ ولذا قال الله تعالى:{ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
{ إن في ذلك} الإشارة إلى المذكور من:مد الأرض ، ووجود أوتادها ، وتحدر الأنهار منها ، ووجود الأزواج المختلفة{ لآيات} أي لدلالات بينات{ لقوم يتفكرون} لجماعة يفكرون ويتفاهمون على التفكير ويتدبرون المعاني ، فإنها لو كانت بالتعليل المجرد ما تنوعت هذا التنويع ، وما تقابلت هذا التقابل فيما بينها ، بل كانت صنفا واحدا ولم تكن أصنافا ، وكانت لونا واحدا ، ولم تكن ألوانا ، والله بكل شيء عليم .