{ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفصل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون4} .
إن القضية بين الفلاسفة الطبيعيين ، والدين الإسلامي في أصل الخلق أن الطبيعيين يقولون- باطلا -:إن الأشياء كانت من العقل الأول كما يكون المعلوم من علته . وإن ذلك يقتضي جدلا وحدة المخلوقات جنسا وشكلا وحقيقة ، ولكنها متغايرة في كل شيء ، متغايرة في طبعها وشكلها وطعومها وألوانها مما يدل على أن لها خالق مدبر فعال لما يريد ، مبدع على غير مثال ولا محاذاة .
{ وفي الأرض قطع متجاورات} بعضها طيب تخرج نباتها ، وبعضها سبخة لا تخرج زرعها ، وبعضها صخري ، وبعضها رملي ، وبعضها صالح للزرع دون الغراس ، وبعضها صالح لها . وإنه لا يخصص هذه لهذه الصفة ، وللأخرى غيرها إلا للطيف الخبير مبدع السموات والأرض ، فدل هذا على وجود المنشئ المدبر لهذا الكون ، الذي يغير ويبدل بإرادة المبدع .
وفوق هذا ، هذه الأرض المتدانية المتقاربة تسقى بماء واحد ، ويختلف بعضها عن بعض في الأكل مع ان التربة تكون أحيانا واحدة ، وتسقى بماء واحد ، وتبذر بها بذور واحدة ورعايتها واحدة ، ومع ذلك تأتي إحداهما بالخير الوفير وإحداها لا يكون فيها الخير الكثير ، فدل هذا على أن هناك مريدا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، وكل عنده بمقدار ، وكل بوقت معلوم ، ولحكم يعلمها اللطيف الخبير .
{ وجنات من أعناب}انتقل البيان من الأرض إلى ما تثمره ، وما تأتي به من خير ، وابتدأ بجنات الأعناب ؛ لأنها كانت أحب الثمار إليهم ، يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا ، ولأنها سهلة لينة ، ولأنها أطيب ما تخرجه الأرض العربية .
{ وزرع ونخيل} هذا إحصاء من غير استقراء لبعض ما ينتج في الأرض العربية وغيرها من الأرضين ، وهي متنوعة ، فزروع مختلفة من حبوب وبقول ، ومختلفة الأنواع ، وتخرج مختلفة في طعومها ، ونوعها ، وإشباعها للحاجات المختلفة ففيها اللين ، وفيها الصلب ، وذكر الجنات من الأعناب رمز لغيرها من أنواع الثمار كالرمان والخوخ وغيرها .
{ صنوان وغير صنوان} النخلات ، أو النخلتان اللتان تخرجان من أصل واحد ، أي النخيل سواء أكان مجتمعا من أصل واحد ، أم كان متفرقا ، وفي هذا إشارة إلى أنه لو كانت مخلوقة بالطبع أو بالعلة ما اختلفت صنوانا وغير صنوان .
ثم بين سبحانه اتحاد سبب الإنتاج فقال:{ يسقى بماء واحد} ، أي أن التربة واحدة ، والبذر واحد ، والسقي واحد ، ومع ذلك يفضل بعضها على بعض في الأكل ما بين حلو ومر ، ورديء وجيد ، وغير ذاك مما هو مختلف ؛ ولذا قال تعالى:{ ونفضل بعضها على بعض في الأكل} والأكل هو الثمر .
{ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} ( ذلك ) إشارة إلى الاختلاف مع أن قطع الأرض متجاورة ، وأن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل – الممتدة الجذور وتسقى بماء واحد- وهو صنوان وغير صنوان ، في كل ذلك آيات مبينة لقدرة الخالق ، لقوم يعملون عقولهم ويدركون أن هذا يدل على خالق مختار فعال لما يريد .