{رَوَاسِىَ}: الجبال الرواسخ .
{يُغْشِي اللَيْلَ}: يلبس ظلمة الليل النهار .
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ} وبسطها بطريقةٍ دقيقةٍ صالحةٍ للعيش وللنموّ والحركة للموجودات التي أراد لها الله أن تعيش فيها من إنسان وحيوان ونبات يحتاج وجودها إلى قواعد ثابتةٍ في العمق والامتداد ،{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} بما أودعه فيها من جبال ضاربةٍ في أعماق الأرض وشامخة في أعالي الفضاء ،لتحقق التوازن الذي يركّز للأرض الثبات والصلابة ،حتى لا تسقطها زلازل ،ولا تهزّها براكين ،حفاظاً على طبيعتها الممتدّة المنتجة ،{وَأَنْهَاراً} تجري وتمتد لتبعث في الأرض الخصب والحياة ،لتزدهر بالخضرة المعشبة ،وبالأشجار المثقلة بالفواكه والثمار ،وبالزروع الحاملة للحبّ ،وبالريّ الذي يبعث الحياة في كل شيء .{وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} انطلاقاً من قانون الزوجية الذي أودع الله فيه سر عظمته ،ووحدة خلقه ،حيث تلتقي فيه أصغر ذرّة في الكون ،بأكبر مخلوق فيه ،مع كل هذا التنوُّع في الشكل والحجم والخصائص والنتاج ،ومن خلاله يتمّ التلاقح عند الإنسان والحيوان والنبات ،ويتحقق التفاعل الذي يعطي الحركة للجماد .وقد ذكر في تفسير الزوجين في الثمرات: أن المراد هو الصنف الذي يخالفه صنفٌ آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أو لم يكونا .
وقال في تفسير الجواهر في قوله تعالى:{زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}: «جعل فيها من أصناف الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى في أزهارها عند تكوّنها ،فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر وزرعٍ لا يتولّد ثمره وحبّه إلاّ بين اثنين ذكرٍ وأنثى .فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدةٍ كأغلب الأشجار ،وقد يكون عضو الذكر في شجرةٍ والآخر في شجرةٍ أخرى كالنخل ،وما كان العضوان فيه في شجرةٍ واحدة ،إما أن يكونا معاً في زهرة واحدة ،وإما أن يكون كلٌّ منهما في زهرةٍ وحده ،والثاني كالقرع ،والأول كشجرة القطن ،فإن عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرةٍ واحدةٍ » .
وقد علّق صاحب تفسير الميزان على ذلك بقوله: «وما ذكره وإن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها ،إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه ،فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين ،ولو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: وكل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين .
نعم ،لا بأس أن يستفاد ذلك في مثل قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ} [ يس: 36] ،وقوله:{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [ لقمان:10] ،وقوله:{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [ الذاريات:49] » .
وما ذكره صاحب الميزان يقوم على طبيعة التركيب اللفظي الجاري على سبيل الحقيقة ،ولكن يمكن أن توحي أمثال هذه الآيات بأن المراد من هذه الآية ما ينسجم مع معناها ،لأن الظاهر أن الله يريد تأكيد هذه الحقيقة الكونية في كل شيء ،فتكون هذه الآية تطبيقاً لهذه الظاهرة الكلية في النبات .وربما يكون المراد منها معنىً خفيّاً لم يدرك الإنسان سرّه في طبيعة الثمرات .
{يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ} بانتشار الظلمة في الفضاء بالطريقة التي تغطي الآفاق التي كانت مشرقةً بضوء النهار ،{إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لأن الفكر إذا تحرّك على مستوى الظواهر بما توحيه وتدلّ عليه ،يستطيع أن يدرك طبيعة الحكمة في انسجام القوانين المشتركة التي تخضع لها تلك الظواهر ،وفي الأسرار البديعة التي تختزنها خصائص كل واحدةٍ منها ،فينتهي إلى الإيمان عند الإله الواحد الذي يبرر معنى وجود الكون وحركته السائرة إلى مستقرها المرسوم .