جولة في رحاب الكون ..من أجل الإيمان
كيف يحصل الناس على قناعة الإيمان بالله وتوحيده ؟هل يمكن لنا القول كما يقول بعض متفلسفة الأديان: إن الإيمان فوق العقل ،فلا مجال لتحصيل الأول عن طريق الثاني ،ولا يمكن لك أن تطالب مؤمناً ببرهان عقليّ على إيمانه ،لأنه حالةٌ تلتقي بالوجدان بطريقةٍ لا شعوريةٍ ،وتتحرك مع المشاعر بأسلوب روحيّ ،فهو الغيب الذي لا يملك الحسُّ أن يلتقي به ،وهو الإحساس الداخليّ الذي لا تملك المعادلات العقلية أن تقترب منه ؟
هل الإيمان حالةٌ شعورية ،أم هو حالةٌ عقليةٌ تتحرك في أجواء الشعور ؟إن الله يجعل الإيمان منطلقاً من موقع الفكر ،فلا بد للإنسان من مناقشة كل الطروحات التي تدعوه ليؤمن بها ،ولا بد له من أن يخوض معها صراع الفكر عندما تتعدد أو تتنافر ،ليصل إلى الرأي الأرجح من خلال النتائج الحاسمة لهذا الصراع .ولا يقبل الله للإنسان أن يقلِّد في إيمانه ،أو يعتمد على ما لا يجوز الاعتماد عليه في ميزان العقل ،ولهذا ذمّ المقلّدين لآبائهم ،لأن القرابة لا تبرّر الخضوع لرأي القريب دون أيّ أساسٍ شرعيّ .
ثم كيف نصل إلى الإيمان من خلال العقل ؟هل نتحرك في نطاق المعادلات العقلية التجريدية المعقّدة التي يثيرها الفلاسفة في تحليلاتهم ليكون ذلك هو الأساس الوحيد للإثبات ،أم أنّ هناك وسائل أخرى تتصل بالحسّ الإنساني لجهة ما يشاهده الإنسان أو يلمسه ؟
إن القرآن يريد للإنسان أن يقرأ في صفحات الكون ما يراه من ظواهر الطبيعة ،وعجائب الخلق في الأرض والسماء ،ويفكر ويتدبّر ،ليصل إلى النتائج الحاسمة على مستوى العقيدة والحياة ،وليكون إيمانه صافياً صفاء النور في السماء ،عميقاً عمق الينابيع في الأرض ،منساباً في كل لمحة ضوء تحدّق فيه ،وفي كل آية كونيةٍ تملأ البصر بعجائبها ،والعقل بأسرارها ومدلولاتها .إنه الإيمان الحيّ الذي يتجسد في كل ما يعيشه الإنسان في نفسه ،وما يحيط به من آفاق وأوضاعٍ وموجودات .
رفع السموات واستوى على العرش
إنّ ما تريد الآية أن تثيره ،هو أن تحرك الإيمان في وجدان الإنسان من خلال فكر الحياة .{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ترونها} .فإذا فكرّ الإنسان بالخالق وبحث عنه ،أمام كل العقائد التي تتنوّع في حديثها عنه ،وتطلّع إلى السماء وما فيها من كواكب فخمة سابحة في الفضاء ،وتأمّل كيف استطاعت أن تثبت في مواقعها من دون ركائز ،وحاول أن يدرس كيف حدث ذلك ،هل هناك ركائز خفية تختلف عما ألفه الإنسان من الأعمدة التي تمسك الأشياء المرتفعة في الفضاء ،ومن صنعها ؟ومن الذي يملك القوة والقدرة على فعل ذلك ؟لا شك أن الإنسان لن يجد بعد البحث إلا الله الواحد القهّار .وقد نلاحظ في هذا المجال أن الآية تتحدث عن الظاهرة العجيبة لتجعلها موضع تفكير الناس من جديد ،كي يدركوا سرّ العظمة فيها بالنظرة العامة ،أو بالنظرة العلمية الدقيقة ،فيخرجهم بذلك من حالة الإلفة معها التي أفقدتهم الشعور بعناصر الإبداع وأسرار العظمة .
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ،بما توحي به كلمة الاستواء من السيطرة المطلقة ،وبما تمثله كلمة العرش من مركز هو الأعلى في خلق الكون ،أو من التعبير عن موقع السلطة على سبيل الكناية .وربّما كان التعبير بكلمة"ثُمَّ "دلالة على الترتيب الزمني بين خلق السماء وخلق العرش الذي يمثل المركز الأعلى في مواقع الخلق في ما يعنيه العلوّ من درجات دنيا وعليا .أما حقيقة الموضوع ،فإن الله ليس جسماً يحتويه المكان ليجلس على عرش معين في مكان معين ،ولكنها مناسبات التعبير في الشكل والمضمون .
تسخير الشمس والقمر ومد الأرض
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ،بما وضعه لهما من قوانين ثابتةٍ ،في حركتهما الكونية المتصلة بالظواهر الآخرى ،الأمر الذي يجسّد إرادة الله في إدارة الأشياء في الوجود حسب مشيئته وتخطيطه ،فلا مجال لانحراف أيّ شيء منها عن مداره ،أو لابتعاد أي شيء منها عن غايته المرسومة ،فكل الأشياء مسخّرة له ،في ما يبني به الحياة ،ويدبّر لها أمرها .{كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} ،فقد جعل الله لهما ولكل شيء في السماء والأرض أجلاً معيناً ،وأمداً محدوداً ،في حركته المرسومة التي قدرها الله له .
{يُدَبَّرُ الأمْرَ} فيحرك كل شيءٍ في نطاق خطةٍ حكيمةٍ تضع كل شيءٍ في موضعه ،وتلاحق كل أوضاعه وترعاها في تقدير دقيقٍ وتدبير حكيم .{يُفَصِّلُ الآيَاتِ} الكونيةعلى رأي بعض التفاسيروذلك في فصل الأشياء بعضها عن بعض ،وتمييزها في خصائصها ودقائقها ،بحيث لا تختلط الأشياء فيها ولا ترتبك الظواهر والموجودات ،أو الآيات المنزلة من عند اللهكما في تفسير بعضٍ آخروذلك بتوضيحها وكشف حقائقها وخصائصها ،بحيث لا تخفى على أحدٍ ،ولا يشتبه أمرها على الناس ،ليعرفوا ،من خلال ذلك ،كيف يعرفون الله بعظمته وحكمته وتدبيره ،وكيف يؤمنون به في وحيه ورسالته ،لينتهي ذلك بهم إلى استلهام تدبير الله في منع العبث في انتهاء الحياة إلى اللاهدف واللامعنى الذي يتحدث عنه المنكرون للآخرة .فقد لا يكون للحياة القائمة على التنظيم في الخلق وفي المسؤولية معنى إن لم تكن نهايتها واقعةً في الخط العملي لحركة المسؤولية في ميزان النتائج الحاسمة .{لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} من خلال عناصر اليقين التي يوحي بها الفكر ،وتتحرك فيها الشواهد والبينات .