محاولة الإخراج
بعد أن كلت بهم الحجة ضاق صدرهم ، فانتقلوا من الجدل الباطل إلى الإخراج من أرضهم .
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( 13 ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي ونخاف وعيد ( 14 )
لا يلجأ أحد إلى القوة إلا إذا كل به الدليل ، وأحسن بأن ما يسوقه من قول يحسبه حجة انهيار أمام قول الحق ؛ ولأن أتباع الرسل دائما يكونون قلة وأكثرهم ضعفاء يستهين بهم المشركون ؛ لأنهم أعز نفرا ، وأشد بأسا ، وأكثر تعنتا ؛ ولذا قال الله تعالى:{ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}انحصر كلامهم في أن الرسل والمؤمنين يكونون بين أحد أمرين:الإخراج من أرضهم ، أو أن يعودوا في ملتهم في عبادة الأوثان ، وهنا أمران مهمان لا بد من الإشارة إليهما .
أولهما:القسم ، فمهما هددوا به الرسل ، وقد أقسموا{ لنخرجكم من أرضنا} والقسم دل عليه باللام الموطئة للقسم ونون التوكيد الثقيلة ، وهي بالنسبة لهم أوضح ؛ لأنهم يملكون أعمالهم وأنفسهم فكيف يكون القسم بالنسبة للرسل ، كأنهم يقسمون على الرسل أنهم أخذوا قاسمين على أمرين لا بد من تحقق أحدهما ، وهو لنخرجنكم أو لتعودون ، ونحن نقسم عليكم بذلك .
الثاني:أن التعبير ب{ لتعودن} يوحى إلى أنهم كانوا في ملتهم ، وخرجوا منها وطلبوا أن يعودوا إليها ، والرسل لم يكونوا في ملتهم أبدا ، فما كان الرسل ليشركوا بالله ويعبدوا الأوثان ، والجواب عن ذلك من وجوه أولها:أن عاد بمعنى صار ، وهي كثيرة الاستعمال في اللسان العربي كذلك ، وثانيها:أن ذلك ينطبق على أتباع الرسل ، وثالثها أن حال الرسل قبل الرسالة تكون صمتا عن الشرك لا يعتقدونه ولا يقومون بالدعوة ضده ، فيحسبهم الجاهلون من أهل الشرك أنهم معهم ، فإذا جاءوا بعد البعث يدعونهم حسبوا ذلك جديدا على الرسل كما هو جديد عليهم ، فطالبوا بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه لا يزعجونهم بدعوة إلى الوحدانية ولا برسالة ، ولا ذكر رسول .
وفي هذا الوقت الذي بلغ فيه العند أشده والكفر أطغاه ثبت الله قلوب رسله{ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} أوحى الله إلى رسله قائلا لهم:{ لنهلكن الظالمين} ، أو كان مدلول الوحي{ لنهلكن الظالمين}:اللام لام القسم ، والنون نون التوكيد الثقيلة ، وهي توكيد للقسم فضل توكيد ، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار ، فلم يقل لنهلكنهم ، بل{ لنهلكن الظالمين} لبيان سبب الهلاك وهو الظلم ، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا{. . .إن الشرك لظلم عظيم ( 13 )} [ لقمان] ، وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات ، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهموا بإخراج الرسول ومن معه ، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان ، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه{. . .وما الله يريد ظلما للعباد ( 31 )} [ غافر] .