كان إبراهيم أشد الناس بغضا للأصنام وإدراكا لضلال من يعبدونها ؛ ولذا قال مؤكدا:{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} أسند الإضلال إلى الأحجار ، مع أن الإضلال هو من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها ؛ وذلك لأنهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة وصار الوهم يولد وهما توالت وتكاثرت ، وكلها حولها صح إسناد الإضلال إليها ، وعير إبراهيم عليه السلام عن الذين ضلوا بها أنهم كثير ، وليسوا عددا قليلا ، وذلك لعموم الضلال بها ، وعمومه لا يجعلها حقا ، بل هي باطل ،{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ( 116 )} [ الأنعام] .
وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم عليه السلام ، وهمك يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس ، فيه بيان أنه برئ منهم ما داموا يعبدون الأوثان ؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه:{ فمن تبعني فإنه مني} ملة إبراهيم هي التوحيد ، كما قال تعالى:{. . .ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 123 )} [ النحل] ، فمن تبعه في ملته فإنه منه ، ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد ، وعبد الأوثان فليس منه ؛ لأن اشتراط كونه موحدا ليكون منه ، فيه بيان لئن لم يتبعه لا يكون منه ، بل هو برئ منه ، كما تبرأ من أبيه ، وكما تبرأ من قومه إذ قال:{. . .إني بريء مما تشكرون ( 78 )} [ الأنعام] ، ثم قال عليه السلام في دعائه:{ ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وصف الله تعالى خليله بقوله:{. . .إن إبراهيم لأواه حليم ( 114 )} [ التوبة] ، وإن حلمه وعطفه وشفقته لتبدو في قوله:{ فإنك غفور رحيم} فهو عليه السلام لم يحكم بالعذاب على من عصاه ، بل ترك أمره لله تعالى ، كما قال عيسى عليه السلام مثل ذلك فقال:{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 118 )} [ المائدة] ، وليس معنى النص أنه يطلب الغفران لمن أشرك بالله ، فمحال أن يطلب السامية أنه يرجو الرحمة لمن عصاه ابتداء ألا يستمر على عصيانه فهو يرجو التوبة ولا يقدر البقاء على الشرك حتى يكون العذاب الأليم .
وهنا إشارة بيانية حكيمة ، فيقول خليل الله عليه السلام في دعوته:{ واجنبني وبني} تعبر عن ترك عبادة الأوثان{ واجنبني} ، أي اجعلني في جانب وبني في جانب فهي تتضمن المباعدة ، وكان حقا على ذرية إبراهيم التي عبدت الأوثان أن تباعد بينهما وبينها .