{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} ممن كانوا لا يملكون الوعي المنفتح على حقائق الحياة ،ولا يدققون في الأفكار المطروحة عليهم ،فلا يلتفتون إلى الخرافة وهي تتحرك في هذه الفكرة أو تلك ،تضخيماً لبعض الأشخاص أو الظواهر أو الأشياء ،وغير ذلك من أساليب التضليل الفكري والروحي والشعوري ،الذي يُخضِع الإنسان لمؤثرات داخلية أو خارجية تملك عليه كيانه وتتوه به .
وهكذا كانت هذه الأصنام مصدر ضلال للكثيرين من الناس ،من خلال الفكرة الضالّة التي أريد لها أن تحكم صورتها ..فإن الصنمية فكرة يحركها الوهم والخيال لا الواقع .وقد تكون المشكلة فيها أنّها تفصل إحساس الإنسان بالشيء عن واقع ذاك الشيء شكلاً ومضموناً ،بحيث يضخم الإحساس من حجم صورته إلى درجة تفقد الإنسان التوازن في التعامل معه .
ولعل من أفضل أساليب مواجهة الصنمية ،العمل على تعرية موضوعاتها من كل التهاويل التي أحاطت بها ،والأسرار التي أثيرت فيها ،والمشاعر التي تحركت حولها ،ليعرفها الناس بحجمها العادي ،تماماً كأي شخص آخر ،وكأيّ حجر آخر ،أو أيّة ظاهرةٍ أخرى ،وذلك بالأسلوب الحكيم الذي يعرف كيف يواجه الخرافة ،بالمنطق العقلي الهادىء البعيد عن عنصر الإثارة الانفعالية .
{فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ،من هؤلاء المؤمنين الواعين الذين يدرسون الوقائع من موقع خصائصها الحقيقيّة التي تكشف أن الله هو خالق كل شيء ،وأن كل من عداه في الكون مخلوق له ،وأن بين حقيقة الخالق والمخلوق فرقاً شاسعاً لا مجال معه لمنح المخلوق صفة الخالق ،ولا النزول بالخالق إلى مستوى المخلوق ،وأن الضعف أمام مثل هذه الأضاليل لا يبرر الانحراف ،ولا يمثل حجّة أمام الله ،بل لا بد للإنسان من أن يأخذ بأسباب القوّة المتوفرة بكثرة لاكتشاف الحقيقة ،واتباع دعوة الأنبياء في توحيد الله في كل شيءٍ ،والاندماج الروحي بهم ،من خلال الالتزام الكامل بدعوتهم .
{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ،لأن المسألة لا تتعلق بالجانب الذاتي ليعود الأمر إليّ كشخص ،بل تتعلق بالجانب الرسالي المتصل بالله .وبذلك فإن المسألة تعود إلى الله ،فهو الذي يملك عقابهم على معصيتهم له وابتعادهم عن خط طاعته ،وهو الذي يملك المغفرة والرحمة لهم ،إما بهدايتهم إلى الصراط المستقيم ليملكوا الرحمة من خلال أسبابها ،وإما بالتفضُّل عليهم بها تبعاً لمقتضيات الحكمة .وإذا كان الله قد تحدث في القرآن أنه لا يغفر لمن يشرك به ،فإن ذلك لا يعني استحالة ذلك منه ،كما لا يعني أن طلب إبراهيم ذلك منه يمثل انحرافاً ،لأنه خاطب الله بإرجاع الأمر إليه ،من موقع القلب المفتوح المتسامح الذي تنفتح فيه الروح النبويّة على الحياة كلها وعلى الآخرين بكل رحابةٍ .
وإذا كان إبراهيم قد بدأ إقامة البلد الجديد على أساس البيت الحرام ،ليكون قاعدةً روحيّةً لعبادة الله ،للطائفين والركّع السجود ،فقد فكر أن يستعين بالله في تحويل قلوب الناس إليه ،وإلى هذه الأسرة الصغيرة التي هي جزءٌ من أسرته ،لأن المسألة تحتاج إلى الرعاية الإلهية غير العادية ،في مثل ظروف هذه الأرض الصعبة ،حيث لا زرع فيها ولا كلاء يغري بالمجيء إليها والسكن فيها .