مناجاة إبراهيم ربه بعد بناء البيت
وفي أجواء الإيمان ،مع النداء الإلهيّ الذي يدعو فيه عباده للعودة إليه والالتزام بأوامره ونواهيه على الخط المستقيم ،الذي يمثله خط الرسالات الذي يبدأ من الله ويسير معه وينتهي إليه ،في هذه الأجواء النابضة بالروح الخاشع أمام الله والمتحرك في سبيله ،نلتقي بإبراهيم النبي الذي انفتح على الله بكل روحه وعقله وحياته ،في موقع المشاعر الذاتية ،وفي ملتقى المسؤوليات الكبيرة في الحياة .
إنه الإنسانالنموذج ،الذي يرجع إلى الله في كل صغيرة وكبيرة ،ويبتهل إليه لمواجهة صعوبات الحياة ،ومشاكل العمل ،واهتزاز الخطى في الطريق ،وهو لا يحمل همّاً للذات ،بل كل همّه الرسالة ،ولا يتعقّد من سيطرة الهموم المتنوعة عليه ،بل ينفتح على الله في همومه ،ليخفف منها ويعود حُرّاً طليقاً بعيداً عن كل الأغلال النفسية التي تقيّد حرية انطلاق الروح في رحاب الله .إنها قصة السائرين مع الرسالة ،فلا مشكلة لهم مع الناس إلا من خلال حركة الرسالة في الحياة ،وهذا ما تمثله قصة إبراهيم على أكثر من صعيد .
دعاء إبراهيم
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} ،وذلك بعد أن وضع الحجر الأساس لبناء هذا البلد ،وهو مكة ،وأقام فيه البيت الحرام ،ليكون المنطلق للمجتمع الجديد الذي يلتقي به من قاعدة الإيمان بالله ،وتوحيد العقيدة والعبادة له .ولم يفكر في البداية إلا في الطابع الروحي الذي يريد أن يصبغ هذا البلد ،ويميّزه عن بقية البلدان ،فقد أراده أن يكون بلد سلام يشعر فيه الناس ،مع كل خلافاتهم ونزاعاتهم ،بالأمان بين يدي الله ،فلا يعتدي إنسان على آخر ،بل يعيش تجاهه أحاسيس السلام الروحي القادم من الله ،من خلال الممارسة بإشاعة جو السلام وتشريع تحريم القتال فيه .
وإذا كان السلام هو طابع هذا البلد الذي أراده إبراهيم له ،فلا بد لهذا السلام من أن يرتكز على قاعدةٍ في الروح وفي الفكر ،وأيّ قاعدة أعظم تأثيراً في النفس ،وأكثر قوّةً على الثبات ،من توحيد الله ورفض عبادة غيره ،لأنها القاعدة التي تخطّط للإنسان المنهج الذي تنطلق منه كل مشاريعه العامة والخاصة ،في علاقاته بالحياة وبالآخرين ،حيث يتأكد شعوره بالتقوى في كل شيءٍ ،في أجواء العقيدة الرافضة لشرك الفكر والانتماء ،وفي أجواء العمل الرافض لشرك العبادة ،وهذا ما عبّر عنه إبراهيم( ع )في ما حكاه الله عنهبقوله:
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} ،حيث تمثل عبادة الأصنام استجابة لتسويلات الشيطان وما يثيره في مكامن الذات ومشاعرها الحميمة ،من دافع للانسجام مع الجو العام الذي يسيطر عليه الشرك ،بطريقة تجعل الأجواء الخارجية البعيدة عن الحق مسيطرة على الآفاق الداخلية للذات ،فتنحرف عن الخط المستقيم ،طلباً لرضى أو تأييد هذا الفريق أو ذاك ،وهذا الشخص أو ذاك ،لأنهم يملكون السلطة والموقع الاجتماعي المتقدم الذي تضعف مقدرة الذات على الرفض أمامه إلا إذا توفر لها تأييد الله ورعايته له ،وهو أمر يتحقق بالابتهال إليه أن يمنح الإنسان القوّة في الموقف الرافض الحاسم ،كما يمنح بنيه في الحاضر والمستقبل مثل هذه القوّة في مواجهة كل شركٍ في العقيدة أو في العبادة ،من دون فرق بين الأصنام البشرية أو الحجرية أو الخشبية ،أو غير ذلك مما اعتاد الناس على عبادته والارتباط به على كل مستوى من مستويات العلاقة النفسية والعملية .