{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} مما تحتاجه حياتكم ،في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ ،مما تعرفون سرّه ،أو تجهلونه ،أو مما تحسون به ،أو لا تشعرون به ولكنكم تجدون آثاره في حياتكم .{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} ،وكيف يستطيع الإنسان إحصاء مواقع نعم الله في حياته ،في مفرداتها الصغيرة والكبيرة التي تتجلى آثارها في كل لحظة ،بالمستوى الذي يجعل كل شيء من حوله مظهراً من مظاهر نعم الله عليه ،لعلاقته بالحياة التي يحياها ،في المبدأ وفي التفاصيل .
ولكن إحساس الإنسان اللازم بالشكر لهذه النعم العظيمة التي لا تحصى ،والتزامه بالطاعة والخضوع لله ،وتحريكه لتلك النعم في ما يرضاه له من وجوه الخير كتعبير عن ذاك الشكر ،لا يتمثل في سلوكه وفي حركة حياته ،{إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فهو يظلم نفسه بالكفر والمعصية ،ولا يؤدي إلى ربه حقه من الشكر لنعمه ،بل يعيش الكفران والجحود في أكثر مظاهر وجوده ،عندما يستعمل نعم الله عليه في معصية الله ،وهذا ما أشار إليه الإمام علي( ع ) في كلمات حدد فيها المستوى الأدنى لمسؤولية الإنسان أمام نعم الله عليه: «أقلّ ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه » .
ولكن ما معنى هذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم كفار ،هل هي صفة لازمة للإنسان في سرّ وجوده ،وخاصية من خصائصه الذاتية ،وإذا كان الأمر كذلك ،فما معنى المسؤولية عن سلوكٍ لا إرادة له فيه ولا اختيار ،وكيف يعاقب الإنسان على ما لم يكن له دخل فيه ؟
هذه أسئلة تدور في الذهن أمام هذا الحكم القرآني على نوع الإنسان ،فكيف نجيب عنها ؟
والجواب عن ذلك ،أن الآية لا تتحدث عن خصائص الذات ،ولكن عن الصفة كظاهرة في السلوك ،لأن الأغلب في الناس أن يعصوا الله في الصغير وفي الكبير ،وأن يجحدوا نعمه في حياتهم العملية ،فهم لا يعيشون العصمة في فكرهم وإرادتهم ،وفي عملهم ومواقفهم ،ما قد يسمح باختلال التوازن ،بين التصور والواقع ،والإيمان والحركة ،ولما تفرضه ساحات الفراغ الفكري والعملي من ثغرات ،تدعو الشيطان إلى الاختباء في داخلها ،والعمل بما تقتضيه .
ومن خلال هذا الواقع الظاهر في واقع الإنسان ،تأتي الدعوة إلى التفكير والانضباط والاستقامة في الخط وفي العمل ،وإلى جهاد النفس في ذلك كله ،من أجل أن يتغير الإنسان في فكره ،ويملك الوضوح في رؤيته ،والقوّة في إرادته ،ليغير مصيره ومصير العالم من حوله ،فليس الانحراف قدر الإنسان وقضاءه الذي لا يملك الفرار منه ،بل هو الظاهرة الطارئة الخاضعة لبعض العوامل الداخلية والخارجية التي يملك الإنسان وسائل التغلب عليها وقهرها على كل الأصعدة .