يقول تعالى ذكره:( و) اذكر يا محمد (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) يعني الحَرَم ، بلدا آمنا أهله وسكانه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) يقال منه:جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنَّبته الشر ، فأنا أجَنِّبُه تجنيبا ، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبه إجنابا ، ومن جَنَبْتُ قول الشاعر:
وَتَنْفُــضُ مَهْــدَهُ شَــفَقا عَلَيْــه
وَتَجْنِبُـــهُ قَلائِصَنـــا الصِّعابَــا (1)
ومعنى ذلك:أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام ، والأصنام:جمع صنم ، والصنم:هو التمثال المصوّر ، كما قال رُؤبة بن العجَّاج في صفة امرأة:
وَهْنانَــةٌ كــالزُّونِ يُجْـلَى صَنَمُـهْ
تَضْحَـكُ عـن أشْـنَبَ عَـذْبٍ مَلْثَمُـهْ (2)
وكذلك كان مجاهد يقول:حدثني المثنى ، قال:ثنا أبو حُذيفة ، قال:ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) قال:فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، قال:فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته. والصنم:التمثال المصوّر ، ما لم يكن صنما فهو وثَن ، قال:واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماما ، وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاة ، وتقبَّل دعاءه ، فأراه مناسِكَة ، وتاب عليه.
حدثنا ابن حميد ، قال:ثنا جرير ، عن مغيرة ، قال:كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه:من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول:ربّ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) .
وقوله ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يقول:يا ربّ إن الأصنام أضللن:يقول:أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحق حتى عبدوهنّ ، وكفروا بك.
حدثنا بشر ، قال:ثنا يزيد ، قال:ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يعني الأوثان.
حدثني المثنى ، قال:ثنا إسحاق ، قال:ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) قال:الأصنام.
وقوله ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) يقول:فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني:يقول:فإنه مستنّ بسنَّتِي ، وعامل بمثل عملي ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول:ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك بك ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك ، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم .
كما حدثنا بشر ، قال:ثنا يزيد ، قال:ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين ، وكان يقال:إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلامإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
------------------------
الهوامش:
(1) البيت في ( مجاز القرآن لأبي عبيدة 1:342 ) قال:جنبت الرجل الأمر ، وهو يجنب أخاه الشر ، وجنبته ( بتشديد النون ) واحد ، وأنشد البيت ، وشدده ذو الرمة فقال:
وشــعر قــد أرقــت لـه بليـل
أجنبـــه المســـاند والمحـــالا
يريد أن المرأة تشفق على طفلها ، فتنفض فراشه خوفا عليه مما يؤذيه ، ولا تركب به النوق الفتية ، وهي القلائص ، لأن نشاطها في السير يؤذيه ، وقال الفراء في معاني القرآن ، ( الورقة 164 ) أهل الحجاز يقولون:جنبني ، خفيفة ، وأهل نجد يقولون:أجنبني شره ، وجنبني شره .
(2) البيت لرؤبة من . أرجوزة له مطلعها:"قلت لزير لم تصله مريمة "، وقوله "وهنانة ":صفة لأروى في البيت قبله وهو:"إذا حب أروى همه وسدمه ". والزون:الصنم . وملثمة:مقبلة . وقد شبه أروى بالصنم المجلو في البهاء والحسن . والوهنانة كما في اللسان:الكسل عن العمل تنعما . قال أبو عبيدة:الوهنانة التي فيها فترة .