ابتدأت الدعوة المحمدية بإعلانها بين أهل النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول من آمن خديجة ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم زيد بن حارثة ثم بين أصدقائه الذين يعرفون أمانته وفضل خلقه ، وعظمة نفسه كأبي بكر ، ثم أصدقائه كعثمان ، وهكذا نبتت في خفاء كما نبتت البذرة في ركن مستور مغشي بلباب ، حتى أمر الله نبيه أن يجهر وسط عشيرته فقال:{ وأنذر عشيرتك الأقربين ( 214 )} [ الشعراء] ، فجمعهم وأنذرهم ومنهم من ردوا سيئا كأبي لهب ، ولكن العبادة كانت في خفاء لا يخرج المؤمنون جهارا ، والإيذاء مع ذلك يتوالى ، حتى دخل بعض الأقوياء بأشخاصهم فوق شرفهم النسبي كحمزة بن عبد المطلب والفاروق عمر بن الخطاب ، فكان الجهر وتلقى الأذى بالمجاهرة ونزل قوله تعالى:{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 94 )} .
اصدع ، معناها اجهر بما تدعوا إليه مأمورا به ، ولا تبال أحدا ، وأعرض عنهم ، والصدع شق الصلب وتفريق أجزائه ، أو الوصول إلى ما وراءه ولا يبقى حاجزا ، أو من الصديع ، وهو ظهور الفجر الصادق يشق الليل البهيم ، ويحيط النور الأبيض يشق الجو المظلم .
والمعنى حينئذ ، اجهر بالحق ، وشق به ظلام الجاهلية ، كما يشق الفجر بنوره ظلمة الليل .
وقوله تعالى:{ بما تؤمر} ، أي أن شق الظلام بالنور هو بما تؤمر ، فهو النور الذي يشق الظلام .
وقوله تعالى:{ وأعرض عن المشركين} ، أي لا تلتفت إليهم ، ولا تبال بهم ، ولا تدهن معهم بقول في دين الله تعالى ، ولا تحسب إن ممالأتهم تدنيهم ، إنما يدنيهم الجهر بالحق مع الموعظة الحسنة من غير جفوة ، ولا إدهان{ ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 )} [ القلم] .