التوبة بعد العصيان ومكانة إبراهيم
إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ؛ ذلك أن بتوبته في وقتها عبادة ، وقد قال تعالى:{ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} .
{ إن ربك} الذي خلق الناس أجمعين ورباهم وهذبهم{ للذين عملوا} ، أي هو لهم يمنعهم من الاسترسال في الشرور والفساد ، كما تقول:السلطان لفلان هو ينصره ، ويحميه من أعدائه ولا يسلمه لهم ، وقد ذكر أنه سبحانه لهؤلاء الذين عملوا السوء ، بشرطين:
الشرط الأول – أن يكون بجهالة .
والشرط الثاني – أن يتوبوا ويعملوا الصالح بأن يصلحوا في ذات أنفسهم ، بأن يزول من نفوسهم ، كل أدران السوء ، وترحض عن قلوبهم كل ما عملوا من آثام مبطنة ، وأن يذهب ما اربدت به نفوسهم ، وتطهر .
والسوء كل ما هو في ذاته ليس بطيب ، ويسوء النفس وغيره ، والجهالة هي عدم تدبير الأمر ، وعدم تعرف عواقبه بأن يندفع تحت تأثير شهوة جامحة ، أو هوى متبع ، فإذا تدبر تاب من قريب ، وهذا قوله تعالى:{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ( 17 ) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ( 18 )} [ النساء] .
وقال تعالى في الشرط الثاني:{ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} ، أي قاموا بحق التوبة النصوح ، وهي تقتضي أمورا ثلاثة:
الأمر الأول – الندم على ما حصل من سوء ، وذلك علم بالحق بعد الجهالة ، وثوب إلى الله تعالى بعد الابتعاد .
والأمر الثاني – العزم على ألا يعود إلى ذنب أبدا ، ذلك لأجل غسل ما اعترى القلب من أدران ، وتنظيفه من السيئات وآثرها .
والأمر الثالث – أن يكون ذلك من قريب ؛ لأن القدم يثبت الشر في النفس ، ويجعل إزالة درنه ليس يسيرا .
ثم بعد هذه التوبة شروطها لا بد من العمل الصالح ؛ لأنه لا يزيل عمل السوء إلا العمل الصالح فيحل الخير محل الشر ، وإنه عند تحقق هذه الأمور ، وتوجها العمل الصالح كان الغفران وكانت الرحمة ، ولذا قال:{ إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وهنا عدة أمور بيانية:
الأمر الأول – التعبير ب{ ثم} في أول الآية لما بين الذين يصرون على الذنوب ويعاندون الحق ، ويسرفون على أنفسهم ، وبين الذين يتوبون من قريب عن فعل فعلوه بجهالة ، فكان ل{ ثم} موضعها في هذا ، وكذلك الأمر في{ ثم} الثانية ،{ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} في التعبير ب{ ثم} يفيد التراخي بين التوبة والغفران ؛ لأنه ليس كل توبة توجب الغفران ، بل لا بد من زمن تعتاد النفس فيه فعل الخير حتى يكون الخير منها حالا من أحوالها .
الأمر الثاني – في قوله تعالى:{ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} ( اللام ) تفيد اختصاص الله بهم وأنه قريب منهم .
وإن في ذلك تشجيعا للتوبة لمن يقعون في معصية ، كما قال تعالى:{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا . . . ( 53 )} [ الزمر] وقال تعالى:{ غافر الذنب وقابل التوب . . .( 3 )} [ غافر] .
الأمر الثالث – في قوله تعالى:{ إن ربك من بعدها لغفور رحيم} ذكر البعدية في هذه الحال فيه معنى الفورية ، وأن الله يحب توبة عبده ليغفر له ، فإن الله يحب التوبة ويحب المغفرة .