كما أن البيوت تتخذ من الآجر والأحجار ، ومن الأصواف والأوبار والأشعار والجلود تتخذ أيضا أكنانا من الجبال ولذا قال تعالى:
{ والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( 81 )} .
والله سبحانه وتعالى{ جعل} بمعنى صير ، لأن خلق لنا أشجارا تظل الناس في الحرور ، وبيوتا يكون ظلها دافعا لوهج الشمس وفي الصحارى تجد الأشجار المظلة ، والسحاب المطل ، وقال سبحانه وتعالى مما خلق ، ولم يذكر شيئا بعينه ؛ لأن أنواع ما خلق وكان منه الظلال كثيرة ، فالجنات تتفيأ ظلالها بالغدو والآصال والبيوت فيها ظلال ، لمن يكون بجوارها ، والغمام يكف وهج الشمس وحرارتها ، والسحاب تظلل ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في رحلته إلى الشام كانت السحاب تظله في سيره ، وحيثما انتقل انتقلت معه ، وإن هذه الظلال نعمة من الله تعالى في أرض صحراوية جدباء لا ماء يرطب جوها ، ولا نسيم عليل يطفئ حرها ؛ ولذلك كانت من نعم الله التي أنعم بها على سكانها الذين آتاهم الله تعالى مع ذلك جلدا وقوة احتمال ، فكانت هذه نعما أنعم الله بها عليهم ليستطيعوا أن يعيشوا وأن ينعموا في خيراتها .
وإن هذه ظواهر طبيعية قد يقول قائل:ما النعمة فيها ؟ ، ونقول في الجواب عن ذلك:إنها نعم تغمرنا وتغمر سكان الصحارى ولا يحسون ، ولكن إذا حرموها يعرفون مقدار الإنعام ، وهي أفعال مختارة يريد وضع الأمور في مواضعها ، وكل شيء عند الله تعالى بمقدار وبميزان محكم .
وقال تعالى:{ وجعل لكم من الجبال أكنانا} ، وهي الكهوف والمغارات ، وأكنان جمع كن ، وهو ما يتقى بالاستتار فيه تتبع الأعداء ، وتربص المتربصين ، كما كمن النبي صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه أبو بكر في غار ثور ثلاث ليال سويا ، وكما كان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد ، وإن هذا كله يدل على أنها أكنان ، إما استتارا للعبادة ، أو فرارا من عدو متربص ، أو كن من مطر غامر ، أو استظلال ، ولماذا سماها الله تعالى أكنانا ، ولم يسمها بيوتا ؛ لأن الناس لم يتخذوها بيوتا يسكنون فيها تكون مطمأنا وسكنا لهم تسكن فيها نفوسهم ، ويطمئنون بعد تعب ومكان راحة ، لأن جبال البلاد العربية لم تكن موضع اطمئنان كالجبال الخضراء ، فلم تكن مساكن تكون لسترة حالهم ، بل كانت أكنانا للاستتار من عدو أو مكر منهمر ، أو اتقاء لحرارة الشمس أو نحو ذلك ، وإذا كان من العرب من ينحتون من الجبال بيوتا فارهين كما جاء ذلك في قصص القرآن الحكيم ، فإن ذلك لم يكن عند أهل الحجاز ونجد ونحوها .
وقد من الله تعالى بما هيأهم به ومكنهم منه ، وهو ما ذكره بقوله تعالى:{ وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} ، و ( جعل ) بمعنى صير وهيأ بأن مكنكم من أن تصنعوا ذلك لأنفسكم ، و ( السرابيل ) جمع سربال وهو القميص ، وذكر أن هذه السرابيل نوعان نوع يتقى به الحر ، فلا يكون عاريا يتعرض للجو اللافح ، كما يتعرض العراة من الزنوج الذين لم يتمكنوا من قمصان يتقون بها الحر ، وقد قيل إن السرابيل يتقى به الحر والبرد ، فكيف ذكر الحر فقط ، والجواب عن ذلك اتقاء الحر تستدعي لا محالة ذكر اتقاء البرد ، وإن لم يذكر بالنص فقد فهم بالاقتضاء ، وقد ذكر سبحانه الدفء من قبل في قوله تعالى ،{ لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} وإجابة الزمخشري بأن ذكر الحر يناسبهم
دون البرد لأنهم لا يحتاجون إلى اتقاء البرد ، وعندي أن البلاد التي جوها قاري كبلاد العرب يكون بردها شديدا قارسا .
والواقع أن الكلام كله في اتقاء الحر ، فذكر الظلال والبيوت والأكنان كل هذا في سياق اتقاء الحر فكان المناسب أن يذكر في مزايا السرابيل أن تقى من الحر .
والنوع الثاني من السرابيل وهو ما يتقى به البأس ، وهو دروع الحرب ، إذ البأس هو الحرب ، كما في قوله:{. . .والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . . .( 177 )} [ البقرة] وأضاف سبحانه وتعالى البأس إليهم ، لأنهم في الجاهلية هم الذين كانوا يثيرونها حروبا شعواء ، تدعو إليها العصبية الجاهلية ، وتدفع الحمية غير المدركة العاقلة كحرب البسوس ، وعبس وذبيان ، وغيرهما مما كانوا يثيرونه من حروب ، فلم تكن حروبا عادلة ؛ ولذا أضيفت إليهم .
وإن هذه النعم كلها بتسخير هذه الأمور لهم ، وتهيئتهم بالفطرة لها ، وإن نعم الله تعالى لا تخص ، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى حكمته:{ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} ، أي كذلك التي هيأ سبحانه وتعالى لكم ومكنكم ، وهداكم بفطرتكم إليه من جعل بيوتكم سكنا ومطمئنا ، وعن اتخاذكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم وإقامتكم ، ومن اتخاذكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، أثاثا يكون زينة ومتعة ، ومن اتخاذكم الظلال مما خلق ، ومن جعل البيوت ومن اتخاذكم السرابيل والدروع .
كذلك الذي هيأ لكم تكون نعمه الكلية عليكم دائما{ لعلكم تسلمون} ، أي تسلمون وجوهكم لله تعالى ، وتتركون عبادة الأوثان لهذه النعم المتوالية عليكم ، وأفرد سبحانه النعمة ، وهي متعددة لأن المفرد المضاف يعم ، ولأنها واحدة باعتبار مصدرها ، وهو الله سبحانه وتعالى .