ذكر الله تعالى بعد الصالح من الأعمال والأقوال ، والإصلاح بين الناس قراءة القرآن ، فقال:{ فإذا قرأت القرن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 )} .
ذلك أن قراءة القرآن ذكر لله ، واستماع لحديث الله وترداد له فهو إصلاح للقلوب والنفوس ، ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قراءته بل إن الإيمان يقتضي قراءته ؛ لأنه أحسن الحديث ، بل كان الأمر بقراءته ضمنيا في ضمن الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم ، وكان أمرا بالقراءة والاستعاذة معا ، وفيه فائدة أن القراءة لا تجدي جدواها إلا إذا كانت معها الاستعاذة الحقيقية من الشيطان بإبعاد وساوسه في تمنيات الإنسان إذ إن الأماني ذريعة الشيطان ، يدخل قلب المؤمن من جانبها كما أتى قلبى آدم وحواء بالأماني ، ثم سول لهما الأكل من الشجرة ، ( الفاء ) في قوله:{ فاستعذ} هي فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا اتجهت بالعمل الصالح والقول الصالح إلى القرآن{ فإذا قرأت القرآن . . .} .
و{ قرأت} هنا تطوى في ذاتها نية القراءة أي إرادتها ، فمعنى فإذا قرأت أي أردت القراءة ، كما في قوله تعالى:{. . .إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين . . .( 6 )} [ المائدة] ، وكقوله تعالى:{. . .وإذا قلتم فاعدلوا . . .( 152 )} [ الأنعام] ، وكقوله تعالى:{. . .وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . . .( 58 )} [ النساء] ، وقوله في شأن حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن السائلين متاعا{. . .وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب . . .( 53 )} [ الأحزاب] ، ففي كل هذه الآيات ذكر الفعل وطويت النية والإرادة لأنها ملازمة له ومقترن بها لا بتحقق من غيرها ، بل الإرادة والنية هما الحقيقتان والقول مظهرها ولا ينفصل الباعث عن المظهر إذا كانا متصلين في الوجود ؛ ولذا كانت الاستعاذة مقدمة على القراءة بإجماع العلماء ، ومنهم من جوز الاستعاذة بعد القراءة ، والاستعاذة معناها الالتجاء إلى الله تعالى ، والابتعاد عن وسوسة الشيطان وقت القراءة ، ووسوسته تجئ من بث الأماني في النفس ، وقد قلنا إنها ذريعة الشيطان وطريق دخول الهوى إلى النفس و{ الرجيم} معناه المطرود الملقى عليه الحجارة ، تثبيتا للإبعاد والطرد ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ، ولأمته تبعا ، وهم من يقتدى ويتبع ، فالأمر بالاستعاذة أمر للأمة كلها ، وهي بها أجدر وأحق .