طلب الحق هو السبيل إلى الخير
هذا بيان للطريق السوي الذي يسلكه المؤمن للوصول إلى الحق ، وهو ألا يتبع الأوهام ، فما ضل الناس إلا باتباع الأوهام ، ووراء الأوهام ودأب العقول غير المدركة تكون الأهواء والشهوات وضلال الأفهام ، ووراء ضلال الأفهام عبادة الأوثان ، ولذا قال تعالى:{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ( 36 )} .
القفو معناه التتبع ، وأصله ما يؤدى إلى الكذب أو القذف أو البهتان ، ومنه القائف وهو المتتبع للآثار ، وأصله القياس وهو العلم بالحدس والتخمين وإلا كان كما يعبر الشافعي ، الظن الذي لا يبنى على أساس علمه ، وقد قال تعالى:{. . .وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 28 )} [ النجم] .
والآية تنهى عن أن يتبع ما ليس عنده أسباب للعلم به ، أو ما ينافيه العلم الصحيح والوقائع البينة كشهادة الزور ، وقذف المحصنات وتتبع عورات المؤمنين ليعلنها ، وقد سترها الله تعالى عليهم ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج"{[1436]} .
ويقول ابن كثير بعد أن روى أقوال الصحابة في قفو ما ليس ما به علم ، ومضمون ما ذكره:أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخبال ، كما قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن . . .( 12 )} [ الحجرات] ، وإن تتبع الأمور من آخذ العلم من غير مظانه يحل عرى العقل ، حتى يتوهم ما ليس بحق ، ويفترى ما لم ير ، ولم يسمع ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن أفرى الفرى أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا"{[1437]} ، وإن نتيجة قفو الإنسان والحكم بغير علم يؤدى إلى ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يرى عينيه ما لم تريا بعين خياله ، وإن ذلك هو الخبال ، وقد سمعنا في مصر منذ بضع سنين شائعة بين الناس أشاعها النصارى أنهم رأوا سورة العذراء ، وادعوا أنهم رأوها ، وما رأوها .
وإن اتباع الأوهام يجئ دائما من أن يقفو الرجل ما لم يكن عنده أسباب العلم به ، فيتخيل ثم يخال ، وذلك هو الخبال ، وكذلك تنشأ العقائد الباطلة من عبادة الأوثان ، والتثليت ، وغير ذلك من العقائد الباطلة التي تنشأ من الأوهام وأن يرى العين ما لم تر ، فذلك هو الضلال المبين .
وقد بين الله طريق العلم الهادي المرشد ، وهي هبات الله تعالى التي وهبها للإنسان فقال:{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ، هذه طرائق ؛ فالسمع ينقل العلم الغيبي وينقل العلم الحسي ، والفؤاد وهو هنا العقل يربط بين ما سمع وأبصر من آيات ، ويكون حكمه القطعي الرشيد .
وإنها مسئولة فيسأل السمع لماذا لم يسمع الحق وينصت إليه ، ويسأل البصر لماذا لم ير الآيات وينظرها نظرة إدراك وتعرف ، والعقل لماذا لم يفكر فيما تنقله إليه الحواس ، ولماذا لم يأخذ بأسباب العلم ويتبع الأوهام فيكون الخبال ووراءه الضلال .
وقوله:{ كل أولئك} الإشارة إلى السمع والبصر والفؤاد ، وكل واحد منها كان مسئولا بمفرده ، ومسئولا في جماعته و ( أولئك ) يشار بها إلى الجمع مذكرا كان أو مؤنثا ، أو كان خليطا والله تعالى أعلم .