{ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 )} .
أولاهما:هو المرة الأولى التي يفسدون فيها ، وأكد الله تعالى الإفساد فيها في ضمن تأكيد الإفساد مرتين .
و{ وعد} معناها – ميعاد – وعبر سبحانه وتعالى بوعد دون التعبير بميعاد ؛ لأن الميعاد اسم للزمن ، ويتضمن الوعد ؛ وذلك لأن المصدر فيه إيذان بتوكيد ما وعدهم الله به ، وقد قرن سبحانه وتعالى فساد المرة الأولى ببعث الجيوش المخربة الهادمة أو المذلة لهم أو المذهبة لاستقلالهم .
وقد جعل سبحانه{ بعثنا} جواب شرط لقوله تعالى:{ فإذا جاء وعد أولاهما} وهي المرة الأولى للفساد ، وهذه القضية الشرطية تفيد أن الفساد في الأمم يتردى إلى أن تكون نهبا للمغيرين عليهم ، وأن الحصن الحصين لمنع غارات المغيرين هو استقامة الأمة في ذات نفسها وإقامة العدالة والحكم بالأمانة والعدل ، وأما فسادها فإنه يؤدي إلى الانهيار وأن تكون طعمة للمغيرين يجدون فيها مغانم يغنمونها .
وقوله تعالى:{ بعثنا عليكم عبادا لنا} وعبر سبحانه ب{ بعثنا} ، أي أنهم جاءوا إليهم كأنهم مبعوثون لهم مسلطون عليهم ، وأسند سبحانه البعث إلى ذاته العلية ؛ لأنه جاء على سنة الوجود التي سنها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، وهو أن الفساد يغري بالهجوم على الفاسدين ، ولأن المغالبة الإنسانية تجعل القوي يأكل الضعيف ولا ضعف أكثر من استشراء الفساد فإنه يهدم كيانها ويعرضها للفناء ، سنة الله تعالى في الوجود .
وقال تعالى:{ عبادا لنا} هنا إشارتان بيانيتان:
الإشارة الأولى:أنه عبر ب ( عباد ) وذلك إشارة إلى أنهم خاضعون لإرادة الله تعالى فيهم .
والإشارة الثانية:إضافتهم له سبحانه وتعالى بما يفيد الاختصاص ، ومؤدى ذلك أن الله جعلهم له لا لأجل العبودية والطاعة ، بل ليكونوا آلة تأديب وتهذيب لمن يخرجون عن الهداية ويقعون في الفساد ، وهؤلاء الجبارون هم طعمة لغيرهم إذا فسدوا ، وهكذا يتدافع الشر ، ويدفعه أخيرا الخير ،{. . .ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( 251 )} [ البقرة] .
ووصف سبحانه وتعالى أولئك العباد ، بأنهم{ أولي بأس} ، البأس:القوة ، و{ شديدة} ، أي فيه بطش وعتو ، ولا يرحمون أعدائهم وقد نزعت منهم النواحي الإنسانية العاطفة كالتتر في طغيانهم ، وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة .
وإنهم في حروبهم لا يقنعون بأماكن الجند ومعسكرات الحرب ، بل يدخلون المدائن ويجسون خلال دورها ، ويتردون خلال هذه الدور ، وفي ذلك إشارة إلى أنه يقتلون النساء والذرية والضعفاء من العجزة فلا يعرفون قانونا مانعا ، ولا نظاما حاجزا ، إنما شهوتهم إلى الدماء والمجازر البشرية .
ولقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك وعدا كان وعدا مفعولان ، فقال سبحانه وتعالى:{ وكان وعدا مفعولا} ، أي كانت غارات هؤلاء الغلاظ الأشداء وعدا ؛ لأنه بمقتضى السنة الإلهية أن من كان فاسدا من الجماعات والأمم يكون فريسة لمن هم أقوى قوة ، وأكثر عددا وأشد بأسا ، ووصف سبحانه وتعالى الوعد بأنه مفعول ، أي واقع وقائم ، ومنجز لا تتخلف الإغارة عن الفساد ، كما لا يتخلف السبب عن سببه ، ولا المقدمة عن نتيجتها .
هذه هي المرة الأولى من الفساد التي ادلهمت على بني إسرائيل بسببها المدلهمات ونجوا بقيادة داود عليه السلام ، إذ قتل داود جالوت ، كما ذكر القرآن الكريم على بعض الأقوال ، ولنشر بكلمة نقبض منها يسيرة من تاريخهم .
لقد ثبت في تاريخهم أنه بعد أن قتل داود جالوت ، وآتى الله داود حكم بني إسرائيل ثم خلفه من بعد ابنه سليمان واتسع ملكه واستولى على اليمن ، وقدمت إليه ملكتها وسخر الله تعالى له كل شيء . جاء من ذريته من كان شببا في انقسام الاثنى عشر سبطا ، إلى سبطين سيطرت في حكمهما الوثنية ، والعشرة الآخرون ترددوا بين الوثنية أحيانا قليلة والوحدانية أحيانا كثيرة ، واستمرت مملكة بني إسرائيل نحوا من ألف وخمسين ومائتي سنة ، وفي نهاية فسادهم أغار عليهم ملك آشور وفتح السامرة وأغار على السامرة وسباهم إلى آشور وأحل محلهم قوما من بلاده .
وبعض من الأسباط الذين انفصلوا استمر ملكهم أمدا حتى انقض عليهم – بختنصر – ملك بابل فسباهم وقتل من قتل وحرق التوراة وبذلك انقرضت مملكة بني إسرائيل وأقام اليهود بابل .
ثم جاء الإسكندر المقدوني ومن بعده ، والإسرائيليون أحيانا يكونون تحت حكم غيرهم وأحيانا تحت تسلط سوريا .
ثم استولى الرومان على أرض فلسطين وجرت بينهم وبين الرومان حروب انتهت إلى تسلط الرومان عليهم .
هذه قبضة يسيرة من تاريخهم ثم نعود إلى القرآن .