ويقول تعالى في آيات حسية جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فتنة فقال:
{ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أرينك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( 60 )} .
"إذ"متعلقة بمحذوف تأويله "اذكر"، أي اذكر الوقت الذي قلنا:{ إن ربك أحاط بالناس} ، الناس إما أن يريد بهم الناس جميعا ، وهو الظاهر ، فالعام لا يراد به بعض من يشملهم إلا بقرينة تدل على الخصوص ، ومعنى الإحاطة العلم أو القدرة أو الهلاك ، فمن العلم قوله تعالى:{. . .أحاط بكل شيء علما ( 12 )} [ الطلاق] ، والقدرة أي أن كل شيء في قبضته ، والإهلاك مثل{. . .وظنوا أنهم أحيط بهم . . .( 22 )} [ يونس] ، أي تعرضوا للهلاك .
والمعنى إنا أعلمناك بوحي أن الناس قد أحيط بهم ، وأنهم في قبضة الله تعالى ، والله عاصمك منهم فبلغ دعوتك غير خائف ، فإنه سبحانه وتعالى عاصمك من الناس كما في قوله تعالى:{ يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . .( 67 )} [ المائدة] .
ويفسر الزمخشري الناس بأنهم أهل مكة ، والإحاطة الإهلاك ، وقد بلغ الله نبيه يوم بدر بأن يهلكهم ، ويفسر الرؤيا المنامية بأنها رؤياه أنه مهلكهم في هذه الغزوة ، وأنه إن لم يهلكهم بالإبادة فقد أضعف سلطانهم ، وقد قال في ذلك:"واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك{ أحاط بالناس} ، أي بقريش ، يعنى بشرناك بوقعة بدر ، وبالنصرة عليهم ، وذلك قوله:{ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( 45 )} [ القمر] ،{ قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم . . .( 12 )} [ آل عمران] وغير ذلك ، فجعله كأنه قد كان وجد ، فقال أحاط بالناس على عادته في إخباره ، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر ، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله عنه كان يدعو ويقول:"اللهم إني أسألك عهدك ووعدك"{[1]} ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس إلى آخر ما جاء في أخبار بدر .
وخلاصة تفسير الإمام الزمخشري أنه يفسر الناس بأهل مكة ، وأن الرؤيا رؤيا منامية ، وأنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رآها عندما التقى الجمعان في يوم الفرقان ، وأن الهلاك ذهاب شوكة المشركين ، وإن أخبار القرآن الكريم تكون عن وقائع المستقبل كأنها وقعت الآن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك عندما اشتد أذاهم وإثباتهم ، وكانت الفتنة في أنهم كذبوا .
ونحن مع إجلالنا لمقدم الإمام الزمخشري في البيان لا نرى رأيه .
أولا:أنه تأويل بعيد ، ولأنه لا تكون فتنة ، ولم يحدث كفر لهذه المناسبة .
ثانيا:لأن الأصل إطلاق العام على عمومه ، حتى يقوم دليل أو قرينه على إرادة التخصيص .
ثالثا:أن الآية مكية ، وقد أجاب عن ذلك بأن الكلام كان تبشيرا بما سيكون يوم بدر ، ونقول:إن الألفاظ لا تساعده ، ولا تومئ إليه ، والقرآن كتاب عربي مبين .
ولذلك نرى أن الله أحاط بالناس ، وأنهم في قبضته ، وأنه قادر على كل شيء ، وعاصم نبيه منهم ، وحافظه حتى يؤدى برسالة ربه تعالى .
ولكن ما هي الرؤيا ؟ قال أهل اللغة:الرؤيا تستعمل في الرؤية البصرية في اليقظة ، والرؤيا المنامية في النوم ، ويصح أن يراد بها هنا البصرية في اليقظة ، وهي الإسراء ، "فقد أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".
وقد كانت فتنة للناس ؛ لأن من أهل مكة من ذهب به الاستغراب والدهشة إلى حد الردة بعد الإيمان ، أو على الأقل الشك بعد اليقين ، ويصح أن يراد الرؤيا التي تكون بالروح ، وهي ما كان بالعروج إلى الملأ الأعلى على ما اخترنا واتبعنا فيه كثرة من السلف الصالح .
ونلاحظ هنا أن المشركين كانوا يطالبون بآيات كآيات عيسى وموسى ، فلما جاءتهم كفروا ، فلما جاءتهم في انشقاق القمر ، قالوا سحر مستمر ولما جاءتهم في الإسراء كفروا فصدق فيهم قول الله تعالى:{ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ( 97 )} [ يونس] ؛ لأنهم طبع قلوبهم فلا يفقهون ، هذا ما نراه ، ولا مانع من أن نذكر أمرا يتعلق بتاريخ الإسلام ، وإن كنا لا نرى ذلك في هذه الآية ، وربما نراه في غيرها .
لقد قال سهل بن سعد:إنما هذه الرؤيا هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى بنى أمية ينزون على منبره نزو القردة فاغتم لذلك ، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2]} . وإن ذلك يؤيده التاريخ ، فقد صيروا الحكم ملكا
عضوضا ، وذهبت الشورى ، وقد قال الحسن البصري في شأن بيعة معاوية{ وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ( 111 )} [ الأنبياء] .
قال تعالى:{ والشجرة الملعونة في القرآن} وذلك لسوء مذاقها ، وقبح مكانها ، وأنها تخرج من أصيل الجحيم ، فليس معنى لعنها أنها مطرودة كما يطرد العصاة المسئولون ؛ لأنها لا توصف بالعصيان والمسؤولية ، وإنما هي مذمومة ، فيقال للطعام القبيح المذاق ملعون ، وهي معطوفة على قوله تعالى:{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} فيه فتنة لهم كما أن الرؤيا كانت فتنة لهم ، وقال تعالى مشيرا إلى أنها فتنة:{ أذلك خير نزلا أن شجرة الزقوم ( 62 ) إنا جعلناها فتنة للظالمين ( 63 ) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ( 64 ) طلعها كأنه رؤوس الشياطين ( 65 )} [ الصافات] .
وإنها كانت فتنة لهم ، لأنهم بدل أن يعتبروا بما فيها من إرهاب ، وإفزاع فتنوا بالألفاظ ، فقالوا:إنها تخرج في أصل الجحيم ، ونار الجحيم تأكل الحجارة فكيف تنبت فيها الأشجار ، وأخذوا مفتونين يردون هذا القول كأنهم أخذوا على القرآن أمرا مختلفا ، فكانت هي الأخرى فتنة لهم ، والضال لا يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما ، فهو يتعرج به في المعارج من غير اتجاه إلى صراط مستقيم .
وقد ذكر الزمخشري أن النار لا تحرق في طبائع الأشياء ، فقال:"فقالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم تأكل الحجارة ثم يقول ينبث فيها الشجر ، وما قدر الله حق قدره من قال ذلك ، وأنكروا أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل ، وهي دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار ، فيذهب الوسخ ويبقى سالما لا تعمل فيه النار ، وترى النعامة تبتلع الجمر ، وقطع الحديد المحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها ، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها".
وقد قرب الزمخشري وجود شجر ينبت أصلها بالجحيم بالواقع المشاهد ، ولكن تقرر أن قدرة الله تعالى فوق ما يتصور المشركون ، وكل شيء عنده بمقدار ، وكل أمر يذكر لغاية يتخذونها على النقيض ، ولذا قال عن الشجرة الملعونة{ ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} بهذه السخرية والاستهزاء والتهكم على أهل الإيمان .