/م56
المفردات:
إن ربك أحاط بالناس: هم في قبضته .
الرؤيا: هي ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من العجائب .
الشجرة الملعونة: هي شجرة الزقوم .
الطغيان: تجاوز الحد في الفجور والضلال .
التفسير:
60-{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا} .
{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} .أي: علما ،فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم ،ومنه ما جرى منهم إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة الملعونة ،من الجحود والهزأ واللغو .ثم قال سبحانه:{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} .قال الأكثرون: يعني: ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الآيات ،فلما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للناس ؛أنكر بعضهم ذلك وكذبوا ،كما ثبت بعضهم وازداد يقينا .ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة{فتنة للناس} ،وابتلاء لإيمانهم .
وقد استدل القائلون بأن الإسراء والمعراج كانا مناما ،بهذه الآية على صحة ما ذهبوا إليه .
وذهب القائلون بأنهما كانا في اليقظة إلى أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا رآها في وقعة بدر ؛لقوله:{إذ يريكهم الله في منامك قليلا} .وقيل: بل هي رأيا عام الحذيبية حين رأى أنه دخل مكة .
وسلم عشاء إلى بيت المقدس ،فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات ،ثم أصبح بمكة فأخبرهم أنه أسرى به إلى بيت المقدس ،فقالوا له: يا محمد ،ما شأنك ؟!أمسيت فيه ثم أصبحت فينا تخبرنا: أنك أتيت بيت المقدس ،فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام .
وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس: أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ،وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة .وجاء في اللغة: الرؤيا بمعنى: الرؤية مطلقا .وهو معنى حقيقي لها وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا .وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى تقول: رؤيته رؤيا كقربة وقربى .
وقيل إن إطلاق الرؤيا على الإسراء مجاز ؛لوقوعها ليلا أو لسرعتها{[421]} .
{والشجرة الملعونة في القرآن} .أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس ،فإنهم حين سمعوا:{إن شجرة الزقوم .طعام الأثيم} ؛اختلفوا ؛فقوم ازدادوا إيمانا ،وقوم ازدادوا كفرا ،كأبي جهل إذ قال: إن ابن أبي كبشة- يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- توعدكم بالنار ،ثم يزعم أنها تنبت شجرة ،وتعلمون أن النار تحرق الشجر ،وقال عبد الله بن الزبعري: إن محمدا يخوفنا بالزقوم ،وما الزقوم إلا التمر والزبد ،فتزقموا منه ،وجعل يأكل من هذا بهذا .أي: تمرا بزبد .
وقد فات هؤلاء أن في الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار ،فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخري ،لا تؤثر فيه النار ،بل هو يزداد إذا لامسها نظافة ومن ثم يلبسه رجال المطافئ .
وكم في الأرض من عجائب وكم في العوالم الأخرى من مثلها ،فالأرض مملوءة نارا ،وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار ،والماء نفسه مادة نارية نحو 8/9 منه أكسجين وهو مادة تشتعل سريعا ،والتسع أدروجين .
وقوله تعالى:{وإذا البحار سجرت} .أي: صارت نارا من قولك: سجرت التنور إذا أشعلته .
والخلاصة: أن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا ،وفتنوا بالشجرة .وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها ،للعن الكفار الذين يأكلونها ؛توسعا في الاستعمال وهو كثير في كلام العرب .
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .أي: ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة فما يزيدهم التخوف إلا تماديا في الطغيان والضلال .وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا .إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده .ومن ثم لم يرس إليهم بخارقة .فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق .
أما قريش فقد أمهلت ولم تأخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ..ومن المكذبين من آمن بعد ذلك ،وكان من جند الإسلام الصادقين .
وظل القرآن- معجزة القرآن- كتابا مفتوحا لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وللأجيال بعده ،فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته ،عندما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه .
وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ،يهتدي بهم من هم بعد في ضمير الغيب ،وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ،وأنفع للإسلام من كثير سبقوه .