كرامة بني آدم
كرم الله بني آدم من وقت أن خلق آدم وأمر الملائكة أن يسجدوا له ، ولأن الله خلق شهوة ، وملكية فإن غلبت ملكيته فهو أفضل من الملائكة وإن غلبت شهوانيته ، فهو أحط من البهائم فكان من تكريمه تكليفه ، فإن ذلك التكليف علو به من البهيمة إلى الملكية أو إلى خاصة الإنسانية ، ومن هذا التكريم أن كان يبعث وينشر ؛ لأن هذه ضريبة العقل ، ولا يكون الحساب والعقاب إلا للعقلاء المختارين الذين يميزون بين الخبيث والطيب ، وإن العلاقة بين هذه الآيات وما سبقها من آيات أن الآيات السابقة كانت تتعرض لاعتراض إبليس على تكريم الله تعالى لآدم دونه ، ثم ذكرت فضل الله ونعمه وكفر المشركين بهذه النعم ، وعدم شكرها .
وفي هذه الآية يذكر تكريمه للإنسان في هذه الدنيا كما كرم أباه منذ النشأة الأولى .
قال تعالى:{ ولقد كرمنا بني آدم} التكريم يتناول التكريم الأول بأمر الملائكة بالسجود لآدم ، فإن ذلك تكريم للخلق الإنساني منذ الابتداء ، وليس معناه أن كل إنسان أكرم عند الله من الملائكة ، بل معناه أن آدم ذاته قبل أن يعصى كان مستحقا للكرامة فوق الملائكة ، ولكنه بعد ذلك عصى آدم ربه فغوى ، وهذا يشير إلى أن آدم يستحق الكرامة التي كرمه بها إلا إذا عصى .
وإن تكريم الله للإنسان ابتداء كما رأيت منذ النشأة الأولى ، ثم كان من تكريمه أن خلقه في أحسن تقويم ، ثم كان من تكريمه أن أعطاه سبحانه وتعالى العقل المميز ، ثم كان من تكريمه أن جعل له إرادة يختار بها الخير والشر فيعلو عن الملائكة إن اختار الخير ، وذلل كل الصعوبات التي تعترض طريقه ، ثم كان من تكريمه أن سخر له السموات والأرض والنجوم وصار كل من في الوجود له ، كما قال تعالى:{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . . .( 29 )} [ البقرة] .
وذكر الله تعالى من تكريمه أنه تمكن من الأرض يحمل فيها بالركائب التي سخرها له من بغال وحمير وخيل مسوق وغير مسوقة وجمال له فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ، وكان حمله في البحر بالفلك المشحون كما ذكر سبحانه في آيات أخرى .
وإن الحمل في البر يدخل فيه الحمل في الجو بالطائرة التي تسبح في الهواء كما يجري الفلك في الماء ، كما قال تعالى:{. . .ويخلق ما لا تعلمون ( 8 )} [ النحل] ، وقوله تعالى:{ فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} وإن كل المخلوقات التي لم تؤت مثل ما أوتى ابن آدم من عقل مدبر وإرادة للخير والشر وابتلاء بالخير والشر ، كما قال تعالى:{. . .ونبلونكم بالشر والخير فتنة . . .( 35 )} [ الأنبياء] ، كل هؤلاء فضل الإنسان عليهم بالفعل والتمييز والإرادة لما فعل وتحمل التبعة .
وقوله تعالى:{ ممن خلقنا} ، ( من ) بمعنى بعض وهم كثرة ، فالإنسان من بين ما خلق قليل محدود ، وغيره كثير غير محدود ، وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان بوصف كونه إنسانا لا لأنه عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود أو متخلف أو متعلم ، فهي حق كل إنسان ، وإن البعث والنشور والحساب والعقاب والثواب من أسباب تكريم الإنسان لأنه يكون مسؤولا عما يفعل ، والمسؤولية تكريم للإنسان لأن غير المسؤول همل ، والمسئول من له كرامة وأدته إلى الجحيم ، ولذا قال تعالى:
{ يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( 71 )} .