/م70
ثمّ تشير الآيات القرآنية إلى ثلاثة أقسام مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله لبني البشر ،هَذِهِ المواهب هي أوّلا: ( وَحملناهم في البر والبحر ) .
ثمّ قوله تعالى:( ورزقناهم مِن الطيبات ) و مع الالتفات إلى سعة مفهوم ( الطيب ) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإِلهية الكبيرة .
أمّا القسم الثّالث مِن المواهب فينص عليه قوله تعالى: ( وَفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) .
بحوث
أوّلا: وسيلة النقل أوّل نعمة للإِنسان
الملاحظة التي تلفت النظر هُنا ،هي: لماذا اختار الله قضية الحركة على اليابسة وَفي البحار ،وأشار إِليها أوّلا مِن بين جميع المواهب الأُخرى التي وَهبها للإِنسان ؟
قد يكون ذلك بسبب أنَّ الاستفادة مِن الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث بدون الحركة ،حيثُ أنَّ حركة الإِنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إلى وسيلة نقل ،إِذ أنَّ الحركة هي مقدمة لأي بركة .
أو أنَّ السبب قد يكون لإظهار سلطة الإِنسان على الكرة الأرضية الواسعة بما في ذلك البحار والصحاري .إذ أنَّ لكل نوع مِن أنواع الموجودات سلطة على جزء محدود مِن الأرض ،أمّا الإِنسان فإِنَّهُ يحكم الكرة الأرضية ببحارها وَصحاريها وهوائها .
ثانياً: تكريم الإِنسان مِن قبل الخالق
بأي شيء كرَّم الله الإِنسان ؟الآية تقول بشكل مجمل ( وَلقد كرَّمنا بني آدم ) .
بين المفسّرين كلام كثير عن مصداق هَذا التكريم ،فالبعض يعزو السبب لقوّة
العقل والمنطق والاستعدادات المختلفة وَحرية الإِرادة .أمّا البعض الآخر فيعزو ذلك إلى الجسم المتزن والجسد العمودي ،والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإِنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة ،وأيضاً تمنحهُ القدرة على الكتابة .
والبعض يعتقد أنّ التكريم يعود إلى أنّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل طعامه بيده .
وهناك مَن يقول: إنّ السبب يعود إلى سلطة الإِنسان على جميع الكائنات الأرضية .
وهناك مِن المفسّرين من يعزو التكريم إلى قدرة الإِنسان على معرفة الله ،والقدرة أيضاً على إطاعة أوامره .
لكن مِن الواضح أنَّ جميع هَذِهِ المواهب موجودة في الإِنسان وَلا يوجد تضاد بينها ،لذا فإِنَّ تكريم الخالق لِهَذا المخلوق الكريم يتجلَّى من خلال جميع هَذِهِ المواهب وَغيرها .
خلاصة القول: إِنَّ الإِنسان لهُ امتيازات كثيرة على باقي المخلوقات ،وَهَذِهِ الامتيازات الواحدة منها أعظم مِن الأُخرى ؛فمضافاً إلى الامتيازات الجسمية ،فإِنَّ روح الإِنسان لها مجموعة واسعة مِن الاستعدادات والقدرات الكبيرة التي تؤهلُهُ لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود .
ثالثاً: الفرق بين ( كرَّمنا ) و ( فضَّلنا )
هُناك آراء كثيرة حول التفاوت بين ( كرَّمنا ) وَ ( فَضَّلنا ) فالبعض يقول: إنّ ( كرّمنا ) هي إِشارة إلى المواهب التي أعطاها الله ذاتاً للإِنسان ،بينما ( فضَّلنا ) إِشارة إلى الفضائل التي اكتسبها الإِنسان بسبب توفيق الله .
هُناك احتمال قوي بأنّ ( كرّمنا ) إشارة إلى الجوانب المادية ،أمّا ( فضّلنا ) فهي إشارة إلى المواهب المعنوية ،لأنَّ كلمة ( فضَّلنا ) غالباً ما تأتي في القرآن بهذا المعنى .
رابعاً: ما معنى كلمة ( كثير ) في الآية ؟
بعض المفسّرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني الإنسان ،فالقرآن يقول بأنَّ الإِنسان مفضَّل على أكثر المخلوقات ،وَتبقى مجموعة لا يكون الإِنسان أفضل مِنها ،وَهَذِهِ المجموعة ليست سوى الملائكة .
وَلكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وَتعليمهم ( الأسماء ) مِن قبل آدم ،لا يبقى شك في أنَّ الإِنسان أفضل مِن الملائكة .
لذا فإِنَّ كلمة ( كثير ) تعني هُنا ( جميع ) .وَكما يقول المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان ،فإنَّ استخدام كلمة ( كثير ) بمعنى ( جميع ) يعتبر عادياً وَوارداً في القرآن الكريم وَفي لغة العرب .
وَهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو: «إِنّا فضلناهم على مَن خلقناهم ،وهم كثير » .
فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية ( 223 ) مِن سورة الشعراء: ( وأكثرهم كاذبون ) بينما مِن البديهي أنَّ كل الشياطين كاذبين وَليس أكثرهم ،وَإنّما استخدمت الآية ( كثير ) بمعنى ( الجميع ) .
على أي حال ،إِذا اعتبرنا المعنى خلافاً للظاهر ،فإِنَّ آيات خلق الإِنسان ستكون قرينة واضحة لذلك .
خامساً: لماذا كان الإِنسان أفضل المخلوقات ؟
لا يعد الجواب على هَذا السؤال معقداً ،إِذ أنّنا نعلم أنَّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون مِن قوى مُختلفة ،مادية وَمعنوية ؛جسمية وَروحية ،وَينمو وَسط المتضادات ،وَلهُ استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدُّم .
وَهُناك حديث معروف للإِمام علي( عليه السلام ) وَهو شاهد على ما نقول ،إِذ يقول فيه( عليه السلام ): «إِنَّ الله عَزّ َوجلّ ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة ،وركّب في البهائم شهوة بلا عقل ،وركّب في بني آدم كلتيهما ؛فمن غلب عقله شهوته فهو خيرٌ مِن الملائكة ،وَمن غلبت شهوته عقلُه فهو شرٌّ من البهائم »{[2226]} .
وَهُنا يبقى سؤال واحد: هل أنَّ جميع البشر أفضل مِن الملائكة ،في حين يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون ،وَهَؤلاء يُعتبرون مِن أسوأ خلق الله ...بعبارة أُخرى: هل أنَّ كلمة ( بني آدم ) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم مِنهم ؟
يمكن تلخيص الإِجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي: نعم جميع البشر أفضل ،وَلكن بالقوة والاستعداد ،يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل ،وَلكنَّهم إِذا لم يستفيدوا مِن هَذِهِ الأرضية والقابلية المودعة فيهم ،وسقطوا في الهاوية ،فإنَّ ذلك يكون بسببهم وَيعود عليهم فقط .
وَبالرغم مِن أنَّ أفضلية الإِنسان هي في المجالات المعنوية والإِنسانية ،وَلكن بعض العلماء ذكر أنَّ الإِنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم مِن أنَّهُ يعتبر ضعيفاً في مناحي أُخرى .
«الكسيس كاريل » مؤلف كتاب ( الإِنسان ذلك المجهول ) يقول في كتابه واصفاً قدرات الإِنسان: «اِنّ جسم الإِنسان مِن المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنَّهُ يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإِنساني مِن قلّة غذاء ؛وَسهر وَتعب ،وهموم زائدة ،وأشكال المرض والألم والمعاناة ،وَهو في ثباته وَمقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعداداً استثنائياً يبعث على الحيرة والعجب ،حتى أنّنا نستطيع أن نقول: إِنَّ الوجود الإِنساني في تكوينه الروحي والجسدي هو أثبت الموجودات مِن ذوي الأرواح وأكثرها نشاطاً واستعداداً في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدَّت إلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها »{[2227]} .
الآية التي بعدها تشير إلى موهبة أُخرى مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله للإِنسان ،ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هَذِهِ المواهب .