بعد ذلك كان يحيى نبي الله ، وقد صار شخصا سويا يخاطب وينادي بما أنعم الله به عليه وعلى أبيه فقال تعالى مخاطبا نبيه يحيى:
{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا 12} .
ناداه سبحانه بالبعيد إعلاء له وتشريفا ، وناداه باسمه محبة له وتقريبا ، وقد دل ذلك النداء على أنه بلغ حد الخطاب ، ولذا تضمن معنى كبير وكمل ، وعطف عليه بقوله:{ وآتيناه الحكم صبيا} ، فالواو عاطفة تحمل على ما تضمنه معنى{ يا يحيى} من بلوغ الرشد ، واستواء الشخصية الإنسانية وذلك أمر خارق للعادة فإن الصبي يشدو في الكمال حتى يبلغ مبلغ الرجال ، فيخاطب كما يخاطب الرجال ، ولكنه بلغ مبلغ الرجال ، وهو مبلغ من يعطيه الله تعالى الحكم ، والحكم هنا الحكمة ، وذلك كما في كلام حكيم تميم أكثم بن صيفي ( الصمت حكم ، وقليل فاعله ) أي الصمت حكمة وقليل فاعله ، والكتاب الذي أخذه هو التوراة ، فقد كانت التوراة شريعة النبيين الذين جاءوا من بعد موسى يقرءونها وينفذون أحكامها ، ويعلمونها للناس ويحكمون بما اشتملت عليه من نظم ، فداود وسليمان –عليهما السلام- كانا ينفذان في ملكهما حكم التوراة ، ويقيمان ما اشتملت من حدود وقصاص من غير تفريط فيها ، ومعنى{ بقوة} ، أي خذه منفذا له بقوة لا تخشى فيه لومة لائم ، ولا معذرة لأثيم .