التّفسير
صفات يحيى ( عليه السلام ) البارزة:
رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى ،وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإِلهي المهم الذي يخاطب يحيى: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) .
المشهور بين المفسّرين أنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة ،حتى ادعوا الإِجماع على ذلك{[2338]} .
إِلاّ أنّ البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود ،وهو طبعاً ليسَ كتاباً متضمناً لدين جديد ومذهب مستحدث{[2339]} .غير أن الإِحتمال الأوّل هو الأقوى كما يبدو .
وعلى أي حال ،فإِنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إِجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ ،وإِرادة حديدية ،وأن يعمل بكل ما فيه ،وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه .
إِنّ من القواعد المسلّمة أنّه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة وحزم أتباعه وأنصاره ،وهذا درس لكل المؤمنين ،وكل السالكين والسائرين في طريق الله .
يحيى وصفاته العشرة:
ثمّ أشار القرآن الكريم إلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله:
1( وآتيناه الحكم صبياً ) .وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية .
2( وحناناً من لدنا ) والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإِظهار العلاقة والمودّة للآخرين .
3( وزكاة ) أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية ،وبالرغم من أنّ المفسّرين فسروا الزكاة بمعان مختلفة ،فبعضهم فسّرها بالعمل الصالح ،وآخر بالطاعة والإِخلاص ،وثالث ببر الوالدين والإِحسان إِليهما ،ورابع بحسن السمعة والذكر ،وخامس بطهارة الأنصار ،إِلاّ أنّ الظاهر هو أنّ للزكاة معنى واسعاً وشاملا يتضمن كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة .
4( وكان تقياً ) فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الإلهية .
5( وبراً بوالديه ) .
6( ولم يكن جباراً ) فلم يكن رجلا ظالماً ومتكبراً وأنانيا .
7ولم يكن ( عصياً ) ولم يقترف ذنباً ومعصية .
8 ،9 ،10ولما كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة ،والأوسمة الكبيرة ،فإِن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: ( وسلام عليه يوم ولد ،ويوم يموت ،ويوم يبعث حياً ) .
بحوث
1خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار !
إِنّ لكلمة «قوة » في قوله: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوّة )كما تقدممعنى واسعاً جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية ،الروحية والجسمية ،وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة ،وهي أنّ الدين الإِلهي والإِسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة واللين ،بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة .
إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى ،إلاّ أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أُخرى من القرآن المجيد ،ففي الآية ( 145 ) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة: ( فخذها بقوة ) .
وفي الآية ( 63 و 93 ) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إِسرائيل: ( خذوا ما أتيناكم بقوة ) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع ،ولا يخص شخصاً أو أشخاصاً معينين .
وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية ( 60 ) من سورة الأنفال: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ) .
وعلى كل حال ،فإِنّ هذه الآية تعتبر جواباً لمن يظن أنّه بالإِمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقع الضعف ،أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف .
2ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإِنسان
إِنّ التعبير ب ( سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ) يبيّن أن في تاريخ حياة الإِنسان وانتقاله من عالم إلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: ( يوم ولد ) ويوم موته وانتقاله إلى عالم البرزخ ( ويوم يموت ) ويوم بعثه في العالم الآخر ( ويوم يبعث حياً ) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإِضطرابات والقلق ،فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته ،ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة .
وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط ،في حق يحيى وفي حق عيسى( عليه السلام ) ،إلاّ أنّ لتعبير القرآن في شأن يحيى امتيازاً خاصّاً ،لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه ،في حين أنّ المسيح( عليه السلام ) هو المتكلم في حق نفسه .
ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة .
ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ): «إِنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا ،ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ،ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا ،وقد سلم الله على يحيى( عليه السلام ) في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ،فقال: وسلام عليه ...»{[2340]} .
3النّبوة في الطفولة
صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإِنسان لها حدّ معين عادة ،إِلاّ أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائماً ،فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما ،ويجعلها تتلخص في سنوات أقل ؟كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة ،في حين أنّنا نعلم أنّ عيسى( عليه السلام ) قد تكلم في أيّامه الأُولى ،وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدرعادة عن أناس كبار في السن ،كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إِن شاء الله تعالى .
من هنا يتّضح عدم صحة الإِشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة ،بأنّه كيف تسلّم بعضهم أُمور الإِمامة في سن صغيرة ؟
نطالع في رواية عن علي بن أسباط ،أحد أصحاب الإِمام الجواد محمّد بن علي النقي( عليه السلام ) أنّه قال: رأيت أبا جعفر( عليه السلام ) وقد خرج عليّ ،فأجدت النظر إِليه ،وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ،فبينا أنا كذلك قعد فقال: «يا عليّ ،إِنّ الله احتج في الإِمامة بمثل ما احتج به في النّبوة ،قد يقول ( وآتيناه الحكم صبياً ) ،وقد يقول ( ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ،ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين »{[2341]} .
كما أنّ هذه الآية تتضمن جواباً مفحماً لأُولئك المعترضين الذين يقولون: إِنّ علياً( عليه السلام ) لم يكن أوّل من آمن بالنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الرجال ،لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم ،ولا يقبل إِيمان صبي في العاشرة من عمره !
ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإِمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ) ،وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضا( عليه السلام ) أيّام طفولته: أذهب بنا نلعب ،قال: «ما للعب خلقنا » وهذا ما أنزل الله تعالى ( وآتيناه الحكم صبيّاً ){[2342]} .
يجب الالتفات إلى أن اللعب هنا هو الاشتغال بما لا فائدة فيه ،وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه ،لكن قد يستتبع اللعب واللهوأحياناًهدفاً منطقياً وعقلائياً ويسعى إِليه ،فمن البديهي أن لهذا اللعب حكماً مستثنى .
4شهادة يحيى
لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها ،بل إِنّ موته أيضاً كان عجيباً من عدّة جهات ،وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين ،وكذلك المصادر المسيحية ،مجرى هذه الشهادة على هذه النحو ،بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:
لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه ،حيث تعلق «هروديس » ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا » وهام في غرامها ،وألهب جمالها قلبه بنار العشق ،ولذلك صمم على الزواج منها !
فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى( عليه السلام ) ،فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة ،وسأقف امام مثل هذا العمل .
لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة ،وسمعت تلك الفتاة ( هيروديا ) بذلك ،فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها ،ولذلك صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها ،فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها ،وجعلت من جمالها مصيدة له ،وقد ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه ،إلى أن قال لها هيروديس يوماً: اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعاً ،فقالت هيروديا: لا أريد منك إِلاّ رأس يحيى !لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك ،وقد أصبح كل الناس يعيروننا ،فإِنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل !
فسلّم هيروديسالذي أصبح مجنوناً لا يعقل من عشق هذه المرأةلما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إلى عاقبة هذا العمل ،ولم يمض قليل من الزمن حتى أُحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة ،إِلاّ أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به ،وأخذت بأطرافه في النهاية{[2343]} .
ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإِمام الحسين( عليه السلام ) كان يقول: «إنّ من هوان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إِسرائيل » أي إِن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى ،لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد .