{الْكِتَابَ}: المراد به هنا: التوراة .
{الْحُكْمَ}: العلم بالمعارف الإلهية ،أو هو الفهم .
وتمت كلمة الله ،وولد يحيى لزكريا .وبدأ ينمو ويترعرع في أحضان التقى وفي أجواء الإيمان ،حتى إذا أكمل نموّه الجسدي والروحي ،وانفتح على الله بروحه ،وعلى الإيمان بفكره ،وعلى المسؤولية بكل وعيه ،جاءه النداء الخفي من الله ،أن ينزل إلى الساحة ،حيث يحتدم الصراع بين الآراء المتعددة والمذاهب المختلفة ،وحيث تتصادم الأهواء في النظر إلى القضايا والأشياء بعيداً عن الموازين الدقيقة لها ،ليأخذ دوره في مواجهة ذلك كله ،بكلام الله ،من موقع القوة المرتكزة على عمق الوعي وسعة الأفق ،وشمول النظرة ،وقوة الإرادة ،وصلابة الموقف .
{يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} واحمل التوراة التي تشمل كل شيء في العقيدة والتشريع والمنهج ،لتؤكدها في حياة الناس ،بالدعوة والحركة والخط ،ولا تضعف أمام كل عوامل التحدي ،وعناصر الضعف ،بل تقدَّم بكل قوة ،لأن الأقوياء هم الذين يملكون ساحة الفكر بقوة فكرهم ،وساحة السلطة بقوة شخصيتهم ،وثبات موقفهم .أما الضعفاء فيهزمهم الآخرون بأي أسلوب يضعف الروح ،ويزلزل الفكر ،ويهز الشعور ،فينسحبون عن مواقعهم بسهولة .هؤلاء المنهزمون الضعفاء لا يمثلون شيئاً في حركة الصراع ومواجهة التحدي .
وليست هذه الدعوة خاصة بيحيى ،بل تشمل كل الذين يحملون رسالات الله من أنبياء أو مبلّغين ،فإن على هؤلاء أن يحملوا رسالة الله بقوة وحسم بامتلاكهم العمق في المعرفة وصلابة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة ،والهدف في مواجهة التحدي المضادّ ،وامتلاك السلاح في مواقع الجهاد .وتلك هي مسؤوليتهم التي يريد الله لهم أن يحملوها ،ليتوازن الواقع على خط الهدف ،وتندمج إرادة الإنسان في إرادة الله .وهذا ما أراده زكريا من خلال الولد الذي طلب إلى الله أن يهبه إياه ،ليرثه ويرث من آل يعقوب ،في حمل الرسالة ،وفي ما تركه آل يعقوب من كتاب وحكمة وقوة ،ليسيطروا على كل الذين يريدون الانحراف بالناس عن الخط المستقيم .
وآتيناه الحكم صبياً
{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وتلك هي المعجزة الإلهية الثانية في خلق يحيى ،فقد ألهمه الله الوعي الكامل للحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه ،في كل المواقع التي يبحثون فيها عن الحاكم العادل الذي يعرف الشريعة مصادر وموارد ،ويميز بين مواقعها ،لتتحرك به النظرية في خطوط التطبيق .وهكذا ملأ الحكم كيانه ،وتحرك في كل حياته وهو لا يزال صبياً لم يبلغ الحلم ،ولم يصل إلى السن التي تؤهله لتبوّؤ المواقع المتقدمة للحكم في نظر الناس ،باعتبار أن الحكم هو عنوان كبير لنضج العقل واكتماله ،وسعة المعرفة واتزان المشاعر ،وهي أمور لا تتحقق لصبي في عقله وحركته ،وبالتالي فإنه لا يكون موضعاً للثقة ،لأن ذلك يحتاج إلى قطع مراحل طويلة من النمو الطبيعي ومن معايشة التجارب .ولكنها إرادة الله التي تتصل بالحياة ،فتمنحها كل عناصر القوة وكل عوامل السرعة في النمو ،لأن إرادته لا تتخلف عن مراده في قضايا التكوين في ما يجده من أسرار الحكمة في حركة الإنسان في الحياة .