مقول قول محذوف ،بقرينة أن هذا الكلام خطاب ليحيى ،فلا محالة أنه صادر من قائل ،ولا يناسب إلاّ أن يكون قولاً من الله تعالى ،وهو انتقال من البشارة به إلى نبوءته .والأظهر أنّ هذا من إخبار القرآن للأمة لا من حكاية ما قيل لزكرياء .فهذا ابتداء ذكر فضائل يحيى .
وطوي ما بين ذلك لعدم تعلق الغرض به .والسياق يدلّ عليه .والتقدير: قلنا يا يحيى خذ الكتاب .
والكتاب: التوراة لا محالة ،إذ لم يكن ليحيى كتاب منزّل عليه .
والأخذ: مستعار للتفهم والتدبر ،كما يقال: أخذت العلم عن فلان ،لأنّ المعتني بالشيء يشبه الآخذ .
والقوة: المراد بها قوّة معنوية ،وهي العزيمة والثّبات .
والباء للملابسة ،أي أخذا ملابساً للثبات على الكتاب ،أي على العمل به وحَمْل الأمّة على اتباعه ،فقد أخذ الوهن يتطرق إلى الأمة اليهودية في العمل بدينها .
و{ ءَاتيناه} عطف على جملة القول المحذوفة ،أي قلنا: يا يحيى خذ الكتاب وآتيناه الحكم .
والحُكم: اسم للحكمة .وقد تقدم معناها في قوله تعالى:{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} في سورة البقرة ( 269 ) .والمراد بها النّبوءة ،كما تقدم في قوله تعالى:{ ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً} في سورة يوسف ( 22 ) ،فيكون هذا خصوصية ليحيى أن أوتي النبوءة في حال صباه .وقيل: الحكم هو الحكمة والفهم .
و صَبِيّاً} حال من الضمير المنصوب في{ وءاتيناه} .وهذا يقتضي أن الله أعطاه استقامة الفكر وإدراك الحقائق في حال الصبا على غير المعتاد ،كما أعطى نبيئه محمداً صلى الله عليه وسلم الاستقامة وإصابة الرأي في صباه .ويبعد أن يكون يحيى أُعطي النبوءة وهو صبي ،لأن النبوءة رتبة عظيمة فإنما تعطى عند بلوغ الأشُدّ .واتفق العلماء على أن يحيى أعطِي النبوءة قبل بلوغ الأربعين سنة بكثير .ولعل الله لما أراد أن يكون شهيداً في مقتبل عمره باكره بالنبوءة .