وإن إبراهيم عليه السلام ، وصى بهذه الملة بنيه من بعده جيلا ، بعد جيل ، وصى بها بنيه ، ووصى بها أحفاده ، وأبناءهم ، فمن كفر بها ، فقد كفر بالله وبوصية إبراهيم ، وما كان إبراهيم ليرضى عنهم إذ كفروا بربهم كالمشركين ، إذ غيروا وبدلوا في دين إبراهيم ، وكاليهود الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهوديا ، ولقد رد الله تعالى قولهم:{ وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما . . . 67} [ آل عمران] .
ذكر الله تعالى وصية إبراهيم وقال تعالى:{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} الضمير في{ بها} يعود إلى ملة إبراهيم التي هي موضوع الذكر من قوله تعالى:{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} ، ووصى بأنها الإخلاص لله فقد قال تعالى:{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} فهي موضوع الحديث .
والتوصية طلب الشخص من غيره القيام بأمر معين والتشدد في طلبه ، وهي غالبا يكون تنفيذها بعد الوفاة ، فهي طلب أو إعطاء في الحياة أو في آخرها ليكون تنفيذها بعد وفاته .
وقد وصى إبراهيم بنيه بأن يستمروا مستمسكين بملته بعد وفاته ، ويعقوب عليه السلام –وهو حفيد إبراهيم من إسحاق عليه السلام –قد وصى أيضا بذلك .
وأولاد إبراهيم المذكورون في القرآن هم إسماعيل وإسحاق عليهما السلام ، وذريتهما من بعدهما ، وقد قال تعالى في ذرية إسحاق:{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين 27} [ العنكبوت] وقال تعالى:{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين 84} [ الأنعام] .
وقوله:{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب} برفع يعقوب بالعطف على إبراهيم عليه السلام أي أن إبراهيم عليه السلام وصى بهذه الملة بنيه ، ويعقوب وصى بها بنيه كذلك ، وكانت صيغة الوصية كما ذكرها القرآن{ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين} وهذه الجملة السامية تفسير لمعنى ووصى ، لأنها صيغة الوصية ، ولذا قالوا إن هناك تقديرا ، وهو أن بفتح الهمزة التي تدل على أن ما بعدها بيان لما قبلها .
والوصية أو صيغتها كانت بنداء كل من إبراهيم ، ويعقوب لأبنائه بقوله:يا بني ، بجمع المذكر السالم الذي حذفت منه النون بالإضافة إلى ياء المتكلم .
وناداهم بهذه الصيغة التي تدل على النسبة إليه تقريبا لهم من نفسه ، وفي ذلك دليل على الشفقة بهم والرفق ، وأنه يؤثرهم بما يدل على محبته وحدبه عليهم ، ومضمون الملة التي وصى بها{ أن الله اصطفى لكم الدين} ، أي أن الله جل جلاله ، وهو ربكم الذي ذرأكم وأنعم عليكم ، اختار لكم الدين الكامل ، والدين هنا ، هو ملة إبراهيم ، فهي دين إبراهيم ودينكم ودين الخليقة من بعده ، وهو ملته ، وهو الإخلاص لله رب العالمين وإسلام الوجه له ، كما فسر الله تعالى ، من قبل بقوله تعالى:{ إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} .
وقد صرح سبحانه وتعالى بغاية الوصية ونهايتها كما جاءت على لسانهم ،{ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ، والفاء هي للإفصاح عن شرط مقدر ، أي إذا كانت هذه الملة هي الدين الذي اختاره لكم وهو الإسلام ، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وقوله تعالى:{ وأنتم مسلمون} حال من تموتن .
وقد أكد سبحانه وتعالى الطلب بنون التوكيد الثقيلة ، وليس النهي متجها إلى الموت ، لأن الموت ليس أمرا اختياريا يجري فيه التكليف بالأمر ، وإنما الأمر منصب على البقاء على الإسلام ، أي لا بد أن تبقوا على الإسلام مؤكدا ذلك حتى تموتوا وأنتم على حاله وقيامه ، كما تقول:لا تصل إلا وأنت خاشع فهو أمر بالخشوع وليس نهيا عن الصلاة .
وقوله تعالى:{ يا بني إن الله اصطفى لكم} أهي وصية إبراهيم وحفيده يعقوب معا ؟ الظاهر ذلك ، وقال بعضهم:إنها وصية إبراهيم وأما وصية يعقوب فقد أشير إليها في قوله تعالى من بعد:{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون 133} [ البقرة] .
وأرى أن قوله تعالى:{ يا بني إن الله اصطفى لكم} وصيتهما معا ، ولما جادل اليهود في ذلك قال تعالى مفندا كلامهم ، مبينا حقيقة الأمر{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} إلى آخر الآية ، وعلى هذا التخريج فالوصية واحدة . اللهم إنا أسلمنا وجهنا لك كما أسلم إبراهيم وجهه لرب العالمين .