إن اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم:عزير ابن الله ، وقولهم:المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث ، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب ، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لاحقا وآخره سابقا ، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا ، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك:{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى} .
وإن هذا قلب كما قلنا للأوضاع ، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام ، وهم تابعون له ، ولآبائه ، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا ، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية ، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم ، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا ، ولتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن . . . 46} [ العنكبوت] وقال الله تعالى لنبيه:{ قل أأنتم أعلم أم الله} كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم سؤالا لهم محرجا كاشفا لهم ، لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا ، وإن قالوا إن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم ، فهو سؤال ينتهي برد كلامهم بأنفسهم ، وهو سؤال من علمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب .
وإن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام ، والإيمان الجامع لكل الرسل ، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل ، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد ، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه ، ويكتمونه حتى لا يعلم ، ولذلك قال تعالى:{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} ، والمعنى أنه لا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم ، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفي الواقع والوقوع ، فهو نفى أنه لا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها ، وفي الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون 78} [ البقرة] فيضلونهم بعلم ، ويعلمون الكثير ويكتمونه .
والشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يد القضاء أم لم يكن ، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها ، ولم تكن أخبارا تقرأ ولا تعلم ، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين ، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة . وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته{ وما الله بغافل عما تعملون} فهذا وعيد ، وإخبار بأمر الله تعالى ، وقد نفى الله تعالى نفيا مؤكدا أنه غافل عن عملهم ، بل إنه سبحانه أخذهم بذنوبهم ، فنفى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي .
والغفلة هي:عدم التنبه إلى ما يقع ، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا معالم فيها ولا بناء ، والآية تهديد ووعيد بلا ريب ، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب"الوعيد في هذا قال:هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد ، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا تخفى عليه خافية ، وأنه من وراء ذلك مجازاته ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، لا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر ، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك لا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد .