/م139
{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ؟} قال الأستاذ الإمام:إن"أم "هنا معادلة لما قبلها خلافا للجلال ومن على رأيه القائلين:إنها بمعنى بل – كأنه قال:أتقولون إن هذا الامتياز لكم علينا والاختصاص بالقرب من الله دوننا هو من الله والحال أنه ربنا وربكم الخ ؟ .أم تقولون:إن امتياز اليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا عليها ؟ إن كنتم تقولون هذا فإن الله يكذبكم فيه ؛ وأنتم تعلمون أيضا أن اسمي اليهودية والنصرانية حدثا بعد هؤلاء ، بل حدث اسم اليهودية بعد موسى واسم النصرانية بعد عيسى كما حدث لليهود تقاليد كثيرة صار مجموعها مميزا لهم .وأما النصارى فجميع تقاليدهم الخاصة بهم المميزة للنصرانية حادثة ، فإن عيسى عليه السلام كان عدو التقاليد ، ولهذا كان النصارى على كثرة ما أحدثوا أقرب إلى الإسلام ، لأنهم لم ينسوا جميعا كيف زلزل روح الله تقاليد اليهود الظاهرة ما كان منها في التوراة وما لم يكن .ولكن الذين ادعوا اتباعه زادوا عليهم من بعده في ابتداع التقاليد والرسوم .
وزعم بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في الرد على اليهود ، إذ كانوا يقولون:إن إبراهيم كان يهوديا ؛ وعلى النصارى إذ كانوا يقولون:إنه كان نصرانيا .قال الأستاذ الإمام:وهذا غير صحيح .كلا إن الآية نزلت في إقامة الحجة عليهم بأنهم يعتقدون أن إبراهيم كان على الحق وأن ملته هي الملة الإلهية المرضية عند الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك وكانت هذه التقاليد التي تقلدوها غير معروفة على عهد إبراهيم فما بالهم صاروا ينوطون النجاة بها ويزعمون أن ما عداها كفر وضلال ؟ فهو لا يثبت لهم القول بأن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا وإنما يقول إنهم لا يقدرون على القول بذلك لأن البداهة قاضية بكذبهم فيه ، ولذلك قال لنبيه{ قل أأنتم أعلم أم الله} أي إذا كان الله قد ارتضى للناس ملة إبراهيم باعترافكم وتصديق كتبكم وذلك قبل وجود اليهودية والنصرانية فلماذا لا ترضون أنتم تلك الملة لأنفسكم ؟ أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله أم الله أعلم بما يرضيه ومالا يرضيه ؟ لا شك أن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد صرح ابن جرير الطبري بن قراءة ( أم يقولون ) بالتحتية شاذة وعلى القول بأنها سبعية يكون في الكلام التفات ( وأقول ) قراءة التاء هي لابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وهي للخطاب ، وقراءة الياء للباقين فلا عبرة بعدّ ابن جرير إياها شاذة .
{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟} في هذا الاستفهام وجهان أحدهما أنه متمم لما قبله من إقامة الحجة بملة إبراهيم ، يقول إن عندكم شهادة من الله بأن إبراهيم كان على حق وكان مرضيا عند الله تعالى فإذا كتمتم ذلك لأجل الطعن بالإسلام فقد كتمتم شهادة الله و كنتم أظلم الظالمين ، وإذا اعترفتم به فإما أن تقولوا إنكم أنتم أعلم من الله بما يرضيه .وإما أن تقوم عليكم الحجة وتحق عليكم الكلمة إن لم تؤمنوا بما تدعون إليه من ملة إبراهيم ، وأحد الأمرين ثابت ، لا يقبل مراوغة مباهت .
والوجه الثاني – وهو أظهر – أن الشهادة المكتومة هي شهادة الكتاب المبشرة بأن الله يبعث فيهم نبيا من بني إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل ، وكانوا ولا يزالون يكتمونها بالإنكار على غير المطلع على التوراة وبالتحريف على المطلع .فهو يبين هنا – بعد إقامة الحجة بإبراهيم على أن زعمهم حصر الوحي في بني إسرائيل باطل – أن هناك شهادة صريحة بأن الله سيبعث فيهم نبيا من العرب ، فكان هذا دليلا ثالثا وراء الدليل العقلي المشار إليه بقوله{ وهو ربنا وربكم} والدليل الإلزامي المشار إليه بقوله{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل} الخ ، فكأنه يقول:إن هؤلاء إلا مجادلون في الحق بعد ما تبين ، مباهتون للنبي مع العلم بأنه نبي ، إذ ما كان لهم أن يشتبهوا في أمره بعد شهادة كتابهم له ، فإذا ظلمهم أنفسهم قد انتهى بهم إلى آخر حدود الظلم ، وهو كتمان شهادة الله تعالى تعصبا لجنسيتهم الدينية التي ارتبط بها الرؤساء بالمرؤوسين بروابط المنافع الدنيوية من مال وجاه فكيف ينتظر منهم أن يصغوا إلى بيان ، أو يخضعوا لبرهان ؟ والاستفهام هنا يتضمن التوبيخ والتقريع ، والمؤكدين بالوعيد في قوله{ وما الله بغافل عما تعملون} وإنما الجزاء على الأعمال .