ولقد بين سبحانه دلائل وحدانيته ، وأن خلق الوجود بإرادته ، ولم يخلق الوجود من غير إرادة خلاقة مسيطرة على ما في الوجود ، يعرف ما خلق ، ويدبره والدليل على ذلك:
أولا- تنوع خلقه من سماوات وأرضين ، ومن ماء ينزل فيحيي الأرض بعد موتها ، مما يدل على أنه مخلوق بإرادة واحدة .
ثانيا- تصريف الوجود من حال إلى حال ، من ظلمة ونور وليل ونهار ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل .
ثالثا- المخلوقات المستمرة من رياح تتحرك وسحاب مسخر ، وجريان الفلك على الماء بأمره ، وكل ذاك لمعنى أريد ، وغاية قصدت لا تكون إلا من خالق مريد منفرد بالإيجاد .
رابعا- الإيجاد بالتوالد المستمر ، وانتظام هذا الوجود مما يدل على وحدة الموجد ،{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون 22] [ الأنبياء] .
فهذه الآية الكريمة تشير إلى القدرة المنفردة بالتكوين ، فتنفرد لا محالة بالعبادة والألوهية ، وفي معنى هذه الآية وإن كانت بأسلوب بياني آخر:{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج 6 والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج 7 تبصرة وذكرى لكل عبد منيب 8 ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد 9 والنخل باسقات لها طلع نضيد 10 رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج 11} [ ق] .
هذه إشارات إلى بعض ما في الآية من بينات ، وأدلة على أن خالق الكون واحد مدبر وحده لا يشاركه في هذا الإيجاد المحكم الذي يسير على سنة رسمها منشئه ، لا تقدير لخلق إلا من الله وحده ، وهو العليم الحكيم . ولنذكر ما ساقه سبحانه وتعالى من كلمات في هذا الكون .
قوله تعالى:{ إن في خلق السماوات والأرض} ، قالوا:إن المشركين لما ذكر الله سبحانه وتعالى وحدانيته طلبوا دليلا على الدعوى ، وإردافها ببينة واضحة ، فقال الله تعالى ذلك ، وإذا لم يكن سؤال ، فإنها جواب على فرض سؤال إذ العقل طلعة يريد معرفة سر كل شيء .
والسماوات جمع سماء ، وجمعت لأنها تشتمل على طبقات مختلفة من أبراج ونجوم وكواكب يمسكهن الله تعالى برباط محكم مما سنه في الكون من جاذبية رابطة ، ونسق بهيج ،{ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . . 41} [ فاطر] ، فهو سبحانه خلقها وأمسكها وحفظها من أن تنتثر أو أن تنفطر ووحد الأرض ، لأنها في سطحها وظاهرها شيء واحد ، وإن كانت هي الأخرى طبقات .
وآية السماوات ما فيها من أبراج ونجوم وارتفاعها بغير عمد ترفعها ، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة الباهرة مشرقة ومغربة نيرة ، وغير نيرة .
وآية الأرض ما فيها من بحار وجبال رواسي ، وما في باطنها من فلزات ومعادن وماس ، وما في بحارها من لآلئ ومرجان وعنبر ، فكل هذا آية على وجود الله تعالى ووحدانيته ، فهو خالق الوجود وحده .
وقوله تعالى:{ واختلاف الليل والنهار} بأن يكون كل واحد منهما خلفا ، كما قال تعالى:{ هو الذي جعل الليل والنهار خلفة . . . 62} [ الفرقان] واختلافهما من حيث الظلمة والنور ، ومن حيث الطول والقصر وأن يطول الليل مرة أكثر من النهار وأن يطول النهار أخرى أكثر كما قال تعالى:{ ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل . . . 61} [ الحج] وقد قال تعالى:{ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون 37} [ يس] وآية الليل والنهار هي انتظامهما وتغير أحوالهما بفعل الواحد الحكيم العليم .
وقوله تعالى:{ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} والفلك تذكر وتؤنث ، وهي السفن التي تحمل الأثقال وتنقلها من بلد إلى آخر ، أو إقليم إلى آخر ، لينتفع أهل الأرض بكل خيراتها ، وما يفضل من إقليم ينقل إلى غيرها ، فيعم الخير ، ويتبادل الناس جميعا ما في الأرض من نبات وحيوان ، ولذا قال سبحانه:{ التي تجري في البحر بما ينفع الناس} وآية الفلك أنها تحمل أثقالا ويحملها الماء السائل الرقيق ، ولقد قال تعالى:{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون 41 وخلقنا لهم من مثله ما يركبون 42 وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون 43 إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين 44} [ يس] .
وإن في الفلك آيات أخرى في تسخير الله تعالى لها بالرياح تجريها وتتحرك حيث أراد محركها ، وأنه بعد اتساع العلم ، وقدرة الإنسان في تسخير الآلات والسيطرة عليها ما زالت الرياح عاملا قائما في تسيير الجاريات وقوله:{ وما أنزل الله من السماء من ماء} السماء المراد بها ما علا مما يتصل بالأرض ، وإن الله وحده هو الذي ينزل الماء أي الأمطار ، ولأنها تجئ من غير حسبان ، وتجئ بالاستسقاء أحيانا ، أسند إنزال الماء إليه سبحانه وتعالى ، لأنه المصرف للسحاب ، ولا يمكن ابن الأرض أن يعرف متى تمطر السماء ، ومتى يكون مطرها غيثا يسقي الناس والدواب والأنعام والحرث والنسل ومتى يكون وابلا عاصفا مفسدا وفاسدا . وبين الله تعالى وجها من وجوه النعمة في نزول المياه من السماء إلى الأرض بتسخيره ، فقال تعالى:{ فأحيا به الأرض بعد موتها} والمراد الظاهر أنها من قبله كانت جرداء لا نبات فيها ، ولا زرع ولا ثمر ، فكانت كالميت فينزل الماء فيحييها بالخضرة والنضرة ، وتصير كأنها الحي ، في ريق حياته ، كما قال تعالى:{ وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون 33 وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون 34 ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون 35} [ يس] .
وقوله تعالى:{ وبث فيها من كل دابة} الدابة كل ما يدب على الأرض من الحيوان كما قال تعالى:{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها . . . 6} [ هود] ، وبث أي فرقها ونشرها من أنعام وإنسان وطير وغير ذلك من الحيوان ، فإن ذلك كله من الماء الذي ينزل من السماء سواء أكان سيلا يسيل ، أم نهرا يجري ، أم عينا تختزن فيها مياه الأمطار في باطن الأرض ، ولقد قال تعالى:{. . . وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون 30} [ الأنبياء] والآية في ذلك أن الماء به الحياة ، والله تعالى منزله ومجريه ولو شاء ما كان في الناس هذه الحياة من كل زوج بهيج .
وقوله:{ وتصريف الرياح} ، معناه إرسالها على غير صورة واحدة ، فقد تكون عقيما ، وقد تكون مملوءة ماء ، وقد تكون عاصفا وقد تكون رخاء ، وتكون حارة أحيانا وباردة أحيانا ، وقد تجئ من الشمال وقد تكون من الجنوب ومن الشرق أحيانا ، ومن الغرب أحيانا أخرى ، وفي مقدار تسييرها للسفن الجاريات في البحر ما بين كبيرة وصغيرة ودافعة ورافعة ، وأن ذلك كله بتقدير العزيز العليم ، وقد يقولون:إن ذلك كله يكون تابعا لسنن كونية آتية من حرارة الأرض أو برودتها ، وإن ذلك لحق ، ولكن من الذي سن هذه السنن الكونية ؟ إنه هو الله تعالى ، وهو قادر على تغييرها ، وهذه آية من آيات الله تعالى في الكون ، وفيه بيان قدرة الله تعالى وحكمته العالية .
وإن الله تعالى نصر نبيه في غزوة الخندق ، وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ){[138]} ، ولقد قال تعالى في غزوة الخندق:{ فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . . . 9} [ الأحزاب] وكل خواص الرياح من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتكوين وذلك يقتضي انفراده تعالى بالعبادة فلا يعبد سواه ولا إله إلا الله .
وقوله:{ والسحاب المسخر بين السماء والأرض} والسحاب ظلال تنتقل بين السماء والأرض ، وسميت سحابا لانسحابها من مكان إلى آخر ، وهي قد تكون ممتلئة فتنزل على الأرض إذا بردت ، ويكون منها الودق . وقد قال تعالى:{ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار 43} [ النور] . والسحاب المسخر المذلل لأوامر الله تعالى يبعثه من مكان إلى مكان كما يريد سبحانه ، وهو العليم الخبير ، فيذهب بمطره إلى الأرض التي يريد الله تعالى إحياءها ، ولقد قال تعالى:{ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت . . . 9} [ فاطر] ويقول تعالى:{ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت . . . 57} [ الأعراف] فالسحب هي التي سخرت لتوزيع المياه بإرادة الله تعالى من أرض لا تنبت إلى أرض أخرى تنبت ، فإذا كان الله ينزل من السماء ماء ليكون منه حياة كل شيء ، فالله سبحانه وتعالى سخر السحاب لتوزيع هذا الماء الذي ينزله على حسب الحاجة وعلى حسب حكمته ، وسنته .
هذا الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، والمطر الذي ينزله من السماء ، وتصريف الرياح بسنن كونية نظمها ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، فيه آيات بينات ، وأدلة واضحات قاطعة تدل على وجود الله تعالى وانفراده سبحانه بتدبير الكون ، وعلى أن إرادة واحدة هي التي أنشأته وهي التي تديره ، سبحان الله رب العالمين ، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر تلك الآيات البينات{ لآيات لقوم يعقلون} هذه الجملة السامية فيها جواب "إن"في قوله تعالى:{ إن في خلق السماوات والأرض} إلى آخر الآية الكريمة . "آيات"، أي أدلة قاطعة لا مجال للريب فيها{ لقوم يعقلون} أي يعملون عقولهم لا أهواءهم ، ولم تطمس عليها أوهام توارثوها ، وتقليد استمسكوا به ، وقالوا ما نعبد إلا ما كان يعبد آباؤنا من قبل .
وعبر سبحانه وتعالى ب "قوم"للإشارة إلى الأقوام التي لا تعقل ولا تفكر .