ذكر الله وحدانيته سبحانه وتعالى ، وأنه لا اله إلا هو ، وذكر الأدلة على الوحدانية ، وأنه حافظ الإنسانية ومنميها ، والأحياء جميعا ، ومع هذه الأدلة الواضحة ومع ما غمر الإنسان من نعم ووجود وكيان قائم ، مع ذلك وجد من يجعل للخالق المدبر أندادا في العبادة ، ولذا قال:{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} الأنداد جمع ند وهو النظير المقابل المماثل ، وأنهم يتخذون الأصنام أو الأشجار أندادا مماثلة لله تعالى يتعبدون الأصنام ، ولا يذكرون الله إلا قليلا ، أو الأشخاص فيطيعونهم كأن أوامرهم هي من الله تعالى ، وإن ذلك كله مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها مما نيط بهم في هذا الكون الذي هو في ذاته دليل الوحدانية ، ونعم من آلائه ، سبحانه وتعالى فالإنكار ابتداء هو في اتخاذهم هؤلاء الأنداد أيا كانوا ، وقوله تعالى:{ ومن الناس من يتخذ من دون الله} فيه إشارتان بيانيتان:
الإشارة الأولى- التعبير{ ومن الناس} فمن للبعضية ، أي بعض الناس ، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا ، أم كانوا عددا كثيرا فهم مهينون في تفكيرهم ، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم ، وما يحيط بهم ، فضلوا ضلالا بعيدا ، والتعبير عنهم بذلك{ ومن الناس} إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس ، فليس لهم وصف علم ولا إيمان ، ولا شيء من المكارم التي تعلي الإنسان وتسير به في مدارج الرقي ، كما تقول عن رجل محتقرا:هذا الآدمي ، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي .
الإشارة الثانية- أن الله تعالى قال:{ يتخذ من دون الله أندادا} . فيه إشارة إلى أنهم –أي الأنداد- ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار ، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا ، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم ، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا .
وأنهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل ، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا .
وقوله تعالى:{ كحب الله} قد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية ، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، وإذا أنزلت بهم شديدة لا يلجأون إلا لله ، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما تلونا من كتاب الله تعالى ما يحكيه عنهم ، فهم يفرقون بين معبوداتهم ، وبين الله في شدائدهم ، ولا يفرقون في رخائهم ، وقد علمت أن وثنيي العرب ما كانوا ينكرون وجود الله وأنه المنشئ المكون للوجود ،{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . . . 25}] لقمان] ويقولون في أوثانهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله .
وهذا التخريج هو الأقرب إلى الخاطر ، وهناك تخريج آخر ، يقول إن معنى قوله تعالى:{ كحب الله} أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى ، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده .
والتخريج الأول أظهر وأقرب إلى الخاطر ، وهو المتبادر ، ولقد قال بعد ذلك:{ والذين آمنوا أشد حبا لله} ، أي إن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر ، وأنه خالق الكون ، ولأن حبهم مقصور على الذات العلية ، فإنهم بذلك أشد حبا لله ، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له ، وتسليم الوجه والطاعة له ، والخضوع له ، ولما يأتي من عنده ، فحب الله طاعته ، وأن تمتلئ النفس بذكره ، وأن يكون حبه كله لله تعالى لا يحب شيئا في الوجود إلا لله ، كما قال تعالى:{ يحبهم ويحبونه . . . 54} [ المائدة] ولقد قال صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله ){[139]} فالله في قلبه وفي عمله ، وقوله واختلاطه بالناس ، وهو معه دائما .
وإن الله تعالى قد أعد العقاب الشديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد ، وقدسوا الحجارة ، وعبدوا الطاغوت ، وقد قال تعالى في وصف عقابهم الهائل:{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} والذين ظلموا هم الذين اتخذوا الأنداد ، وأظهرهم ، ولم يعبر عنهم بالضمير أو الإشارة ، لبيان أنهم ظالمون ظلموا أنفسهم وظلموا الحقيقة ، وضلوا وأضلوا ، وأن ما ينالهم من جزاء هو بسبب ظلمهم ، وقوله تعالى:{ أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} مفعول يرى ، ويصح أن تكون يرى الأولى علمية ، ويكون المؤدى أن ذلك يوم القيامة وظلمهم كان في الدنيا ، ويكون سياق الكلام هكذا ، لو يرى الذين ظلموا ذلك ، وهم يرون العذاب الواقع فعلا ، والمعنى يرون العذاب رأى العين بالعين البصرية يوم القيامة ويعلمون أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العقاب .
فهم يرون العذاب فعلا رأى العين ، وقد علموا في ذلك الوقت أن الله سبحانه وتعالى له القوة جميعا ، فلا قوة لأحد أن يزحزحهم من النار التي هم فيها ، ويعلمون أن الله شديد العقاب .
وهنا إشارتان بيانيتان لا بد من ذكرهما:
الأولى- أنه سبحانه يقرر أن الذين ظلموا لو علموا قوة الله وأنه شديد العقاب ،{ إذ يرون العذاب} وهم يرون العذاب برؤية العين البصرية ، وإذ هنا للزمن الماضي وذكرت هنا لبيان تحقق الرؤية كما يذكر الماضي في موضع المستقبل لتأكد الوقوع .
الثانية- أن قوله تعالى:{ ولو يرى الذين ظلموا} إلى آخره ، هذا فعل شرط ، فأين الجواب ؟ ونقول:إن الجواب محذوف ومقدر بما يناسب المقام ، وهو الهوان الشديد ، ويكون المعنى لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا هولا شديدا لا يكتنه كنهه ، ولا تدرك حقيقته إلا عند رؤيته .
وأن العلم بقوة الله تعالى ، وشدة عقابه ، وأنهم قد رأوا بوادره ، فيه تهديد شديد ، وعذاب شديد ، ويلاحظ أن الله تعالى قال:شديد العقاب ، ولم يقل شديد العذاب كما قال في موضع آخر ، لأنه ذكر الجريمة ، وهو اتخاذهم الأنداد ، فالعذاب الذي يرونه هو عقاب ، والعقاب دائما من جنس الفعل ، وليس عذابا لذات العذاب بل هو جزاء وفاق لما قدموا .