الإسلام بين الالتزام العاطفي والانحراف فيه:
في هذه الآيات ،يتحرّك القرآن في واقع الحياة ليقدّم إلينا نموذجاً من نماذج الانحراف العاطفي والعملي في واقع النّاس في الحياة ،وهو النموذج المتمثّل في أتباع الظَّلَمة وأشياعهم حسب التفسير الوارد عن بعض أئمة أهل البيت ( ع ) في قوله تعالى:] وَمِنَ النّاس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّه أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه[،فهم يجمعون بين الإيمان باللّه ومحبته ،وبين حبّ الظالمين من أسيادهم وكبرائهم ،تماماً كما يحبّ الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات .ولعلّ هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين اللّه وبين أئمة الظلم ،كان منطلقاً من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه ،فإنَّ الحبّ الذي تتحدّث عنه الآية ليس الحبّ الداخلي الانفعالي الذي يتحرّك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان ،لأنَّ الجوّ هنا هو جوُّ الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم ،بل الظاهر أنَّ المراد من الحبّ هو الحبّ العمليإن صح التعبيروهو الذي يتمثّل بالاتِّباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخطّطون من دون قيد أو شرط ،تماماً كما هي الحال في محبة الإنسان للّه بمعنى طاعته المطلقة ،وذلك هو التطبيق العملي للإشراك باللّه ،لأنَّ مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلاَّ للّه ،عندما يقدّمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته ،فمعنى ذلك أنه قد جعل ذلك المطاع ندّاً ونظيراً للّه في ما يمثّله ذلك من إخلاص العمل ،وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدّد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية ،بل يتصل بتعدّدها على مستوى الطاعة ،انطلاقاً من العوامل الذاتية المتصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء ،أو التي يأملون الحصول عليها منهم .
معنى الحب للّه في القرآن:
وهنا يلتفت القرآن في عملية مقارنة سريعة بين هؤلاء وبين المؤمنين ،في قوله تعالى:] وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للّه [ فإنَّ معرفة المؤمن بربّه ووعيه لعظمته ،تجعلانه ينفتح على اللّه انفتاحاً يملأ كلّ كيانه في أفكاره ومشاعره ،في جوارحه وجوانحه ،فلا يبقى هناك مجال لأيَّة قوّة ،مهما عظمت ،أن تحتل ولو مساحة صغيرة من نفسه في المستوى الذي يلتقي فيه باللّه ،فلا ولاء لغيره ،ولا طاعة إلاَّ له ،لأنَّ معنى التوحيد أن يخلص كلّ شيء فيك للإله الواحد ،وهذا هو معنى الحبّ للّه في القرآن الذي يريد للمؤمنين أن يعيشوه ويتمثّلوه في وجدانهم ،بعيداً عن الاستغراق في ذاته ،أو التغزل بصفاته ،في ما يشبه بعض أساليب المتصوفة في تعبيرهم عن المحبة بمظاهر العشق والوله والانجذاب الجسدي والروحي ،ما يجعل من حياتهم امتداداً للخطّ الذي أرسل اللّه به رسوله في طاعة مطلقةٍ ،في فكره وإرادته وكلامه .
التبعية هي أساس الحبّ:
أمّا كيف نستفيد ذلك ونقرّره ،فهذا ما يبدو لنا من جوّ الآية من جهة ،ومن طبيعة الرسالة من جهة أخرى ،فنحن نلاحظ في الآية أنها تثير في نهاية المطاف قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة ،ما يوحي بأنَّ الأساس في قضية الحبّ هو التبعية لا العاطفة المجرّدة ،كما أننا نستوحي ذلك من قوله تعالى في آية أخرى:] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ [ آل عمران:31] حيث جعل اتِّباع النبيّ من علامات الحبّ ونتائجه .
أمّا طبيعة الحب من ناحية الرسالة ،فنستطيع أن نفهمه من خلال الاطلاع على تخطيط اللّه لنا أسلوب التعامل معه في الوقوف بين يديه ،وفي ممارستنا للمسؤولية أمامه ،وفي الانضباط في الخطّ المستقيم العملي لديه ،وفي كيفية العمل من خلال رسالاته في الحياة ،مما يعني أن يكون التعبير عن الحبّ بالعمل الصالح الذي يحبّه ويرضاه .
وفي ضوء ذلك ،نفهم الاتجاه القرآني الذي يدعو الإنسان إلى التفكير في خلق اللّه وفي صفاته ،ونفهم الأحاديث التي تدعو إلى التفكير في خلق اللّه وتنهى عن التفكير في ذاته ،لأنَّ التفكير في ذاته يغرق الإنسان في متاهات واسعة من الفكر التجريدي الذي لا ينتهي إلى نتيجة ،ومن المشاعر السلبية التي لا تؤدي إلى أساس معقول ،بينما ينطلق التفكير في خلقه ليقود الإنسان إلى العقيدة المرتكزة على أساس واقعي ،يربط العقيدة بالخطّ المعقول والمشاعر الطبيعية الإيجابية التي ترتبط باللّه من خلال ما تعيشه من نعم وأوضاع ،وما تشاهده من ظواهر وآيات ،فكأنها ترى اللّه في ما تراه وتتعاطف معه من خلال التعاطف مع عظمة الخلق وإبداعه وروعته .
ولعلّ الأحاديث الكريمة التي تدعو إلى أن نتخلّق بأخلاق اللّه ،تتحرّك في هذا الاتجاه الذي يريد أن يجعل العلاقة خاضعة للخطّ الواقعي العملي في الأخلاق والصفات ،ليحبّ الإنسان اللّه من خلال صفاته التي تتحوّل في حياته إلى عيشٍ وإيمان وحياة ،ليبتعد بذلك عن الاستغراق في الأجواء الضبابية التي تعزله عن ذاته وعن مسؤوليته العملية أمام اللّه .
وقد عالج القرآن هذا الحبّ المنحرف لغير اللّه بالبحث عن جذوره في نفس الإنسان ،فقد يكون من أسبابه شعوره بالقوّة التي يملكها هؤلاء الظالمون والمنحرفون في ما يملكون من شؤون الملك والسلطان في الدنيا ،فيخيّل للناظر أنهم يتمتعون بالقوّة المطلقة التي تهيمن على كلّ الأمور ،ما يخلق في أعماق النفس شعوراً بالإعجاب الذي يتحوّل إلى المحبة في كثير من الحالات ،ثُمَّ تتحوّل المشاعر إلى رغبة عميقة في الحصول على رضاهم بالعمل بما يريدون في ما يأمرونه به أو ينهونه عنه .
فكانت هذه الآيات التي تكشف ضعفهم الذاتي الذي قد تحجبه مظاهر السلطان في الدنيا ،ولكنَّه يبدو على حقيقته في الآخرة ،] وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ[،وذلك عندما يقف الظالمون ليروا العذاب المعدّ لهم من اللّه ،فيعرفون أنَّ كلّ مظاهر القوّة التي يتمتعون بها أو يتمتع بها غيرهم من النّاس ،لا قيمة لها ولا أساس .فها هم يعانون من العذاب الذي يقفون أمامه موقف الذلة المطلقة ،والضعف المطلق ،فلا يملكون لأنفسهم معه ضراً ولا نفعاً ،وتنكشف أمامهم الحقيقة المطلقة ،وهي] أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا[ فهو الذي يعطي القوّة ،وهو الذي يمنعها ،أو يسيِّرها ،أو يوقفها عند حدودها التي يريد لها أن تقف عندها ،وهكذا يتعمّق الشعور وهم أمام الحقيقة الأخروية الحاسمة في مصيرهم النهائي ،] وَأَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعَذَابِ[ فالعذاب يقتحم عليهم موقفهم المخذول فيرون اللّه شديد العذاب للمتمردين والعاصين والمنحرفين والكافرين .