/م165
قد عظمت فتنة متخذي الأنداد بهم حتى كان حبهم إياهم من نوع حبهم لله عز وجل ولذلك قال:{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} أي يجعلون من بعض خلق الله نظراء فيما هو خاص به يحبونهم كحبه .ذلك أن الحب ضروب شتى تختلف باختلاف أسبابها وعللها ، وكلها ترجع إلى الأنس بالمحبوب أو الركون والالتجاء إليه عند الحاجة ، فقد يحب الإنسان شخصا لأنه يأنس به ويرتاح إلى لقائه لمشاكلة بينهما ، ولا مشاكلة بين الله تعالى وبين الناس فيظهر فيهم هذا النوع من الحب .ومن أسباب الحب اعتقاد المحب أن في المحبوب قدرة فوق قدرته ، ونفوذا يعلو نفوذه ، مع ثقته بأنه يهتم لأمره ويعطف عليه ، بحيث يمكنه اللجوء إليه عند الحاجة فيستعين به على ما لا سبيل له إليه بدونه .فهذا الاعتقاد يحدث انجذابا من المعتقد يصحبه شعور خفي بأن له قوة عالية مستمدة ممن يحب ، ويعظم هذا النوع من الحب بمقدار ما يعتقد في المحبوب من الصفات والمزايا التي بها كان مصدر المنافع وركن اللاجئ ، وكل ما للمخلوق من ذلك هو داخل في دائرة الأسباب والمسببات والأعمال الكسبية .
وأما قوة الخالق وقدرته وما يعتقده المؤمنون فيه من الرحمة الشاملة ، والصفات الكاملة ، والمشيئة النافذة ، والتصرف المطلق في تسخير الأسباب والمسببات ، والسلطان المطاع في الأرض والسموات ، فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك .وهذا الحب لا ينبغي أن يكون لغير الله تعالى إذ لا يلجأ إلى غيره في كل شيء كما يلجأ إليه .ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب ، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه:لا يخصونه بنوع من الحب إذا لا يرجون منه شيئا إلا وقد جعلوه لأندادهم مثله أو ضربا من التوسط الغيبي فيه ، فهم كفار مشركون بهذا الحب الذي لا يصدر من مؤمن موحد ، ولذلك قال تعالى بعد بيان شركهم هذا{ والذين آمنوا أشد حبا لله} من كل ما سواه ، لأن حبهم له خاص به سبحانه لا يشركون فيه غيره ، فحبهم ثابت كامل لأن متعلقه هو الكمال المطلق الذي يستمد منه كل كمال .
وأما متخذو الأنداد فإن حبهم متوزع متزعزع لا ثبات له ولا استقرار .للمؤمن محبوب واحد يعتقد أن منه كل شيء ، وبيده ملكوت كل شيء ، وله القدرة والسلطان ، على جميع الأكوان ، فما ناله من خير كسبي فهو بتوفيقه وهدايته وما جاءه بغير حساب فهو بتسخيره وعنايته ، وما توجه إليه من أمر فتعذر عليه ، فهو يكله إليه ، ويعول فيه عليه .وللمشركين أنداد متعددون ، وأرباب متفرقون ، فإذا حزبه أمر ، أو نزل به ضر ، لجأ إلى بشر أو صخر ، أو توسل بحيوان أو قبر ، أو استشفع بزيد وعمرو ، لا يدري أيهم يسمع ويسمع ، ويشفع فيشفع ، فهو دائما مبلبل البال ، لا يستقر من القلق على حال .
هذا هو حب المشركين للقسم الأول من الأنداد ، ومن الحب نوع سببه الإحسان السابق ، كما أن سبب الأول الرجاء بالإحسان اللاحق ، ومن الإحسان ما يتمتع به ساعة أو يوما أو أياما متاعا قليلا أو كثيرا ، ومنه ما تكون به سعيدا في حياتك كلها كالتربية الصحيحة والتعليم النافع ، والإرشاد إلى ما خفي من المنافع ، وكل هذا مما يكون من الناس بكسبهم .وليس في طاقة البشر أن يحسن بعضهم إلى بعض بإحسان إذا قبله المحسن إليه وعمل به يكون سعيدا في الدنيا والآخرة بحيث تكون سعادته به غير متناهية ، وهذا الإحسان الذي يعجز عنه البشر هو هداية الدين التي تعلم الناس العقائد الصحيحة التي ترتقي بها العقول وتخرج بها من ظلمات الوثنية ، والتعاليم التي تتهذب بها النفوس وتتزكى من الصفات البهيمية وقوانين العبادة التي تغذي العقائد والأخلاق ، حتى لا يعتريها كسوف ولا محاق .
فالدين وضع إلهي يحسن الله تعالى به إلى البشر على لسان واحد منهم لا كسب له فيه ولا صنع ، ولا يصل إليه بتلق ولا تعلم{ إن هو إلا وحي يوحى} ( النجم:4 ) فيجب أن يحب صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد ، ولكن متخذي الأنداد بالمعنى الثاني في كلامنا قد أشركوا أندادهم مع الله تعالى في هذا الحب إذ جعلوا لهم شركة في هذا الإحسان بسوء التأويل كما تقدم ، فكما يأخذون بآرائهم على أنها دين من غير أن يعلموا من أين أخذوها وإن لم يأمرهم بذلك بل وإن نهوهم عنه يتمسكون كذلك بتأويلهم لما أنزل الله كأن التأويل أنزل معه بدون استعمال العقل ودلالة اللغة وبقية نصوص الدين للعلم بصحته وانطباقه على الحق .
وأما المؤمنون حقا فإنهم يوحدون الله تعالى ويخصونه بهذا الحب كما يوحدونه بالتشريع بمعنى أنهم لا يأخذون الدين إلا عن الوحي ، ولا يفهمون إلا بقرائن ما جاء به الوحي ، وإنما الأئمة والعلماء ناقلون للنصوص ومبينون لها ، بل قال الله تعالى للنبي نفسه{ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} ( النحل:44 ) فهؤلاء المؤمنون يسترشدون بنقلهم وبيانهم ، ولكنهم لا يقلدون في عقائدهم ولا عبادتهم ، ولا يأخذون بآرائهم في الدين الذي هو عبارة عن سير الأرواح من عالم إلى عالم ، بل يجزون كل عقبة ويدرسون كل رئاسة في سبيل الله تعالى ومحبته وابتغاء رضوانه ، فهم متعلقون بالله ومخلصون له{ ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما هم فيه يختلفون} ( الزمر:3 )
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} ( التوبة:31 ){ إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} ( يوسف:40 ) فالمؤمنون هم المخلصون لله في دينهم الذين لا يأخذون أحكامه إلا عن وحيه ، وأما متخذو الأنداد ومحبوهم بهذا المعنى فهم الذين ورد في بعضهم{ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} ( النور:48 ) فهم لا يقبلون حكم الله في كتابه ولكن إذا دعوا ليحكم بينهم بآراء رؤسائهم أقبلوا مذعنين .
بعد هذا ذكر الله وعيد متخذي الأنداد على سنة القرآن فقال{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} .
قرأ ابن عامر ونافع ويعقوب{ ولو ترى} بالتاء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لرأيت أمرا عظيما وخطبا فضيعا وقرأها الباقون بالياء .وقرأ يعقوب{ إن} في الموضعين بالكسر على الاستئناف أو على إضمار القول أي لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها بالشرك ، وظلموا الناس بما غشوهم به من أقوالهم وأفعالهم فحملوهم على أن يتلوهم ، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، حين يرون العذاب في الآخرة فتتقطع بهم الأسباب ، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب ، إن القوة لله جميعا يظهر تصرفها المطلق في كل موجود ، ويتمثل لهم سلطانها تمثل المشهود ، فلا تحجبهم عنها أسباب ظاهرة ، ولا تخدعهم عنها قوى تتوهم كامنة ، لعلموا أن هذه القوة التي تدير عالم الآخرة هي عين القوة التي كانت تدير عالم الدنيا ، وأنها قوة واحد لا تأثير لغيرها فيها ولا في شيء من العالم بدونها ، وأنهم كانوا ضالين في الملجأ إلى سواها ، وإشراك غيرها معها ، وأن هذا الضلال هبط بعقولهم وأرواحهم ، وكان منشأ عقابهم وعذابهم ، ولو رأوا مع هذا أن الله شديد العذابلرأوا أمرا هائلا عظيما يندمون معه حيث لا ينفع الندم .
وأمثال هذا الوعيد على من يشوب إيمانه بأدنى شائبة من الشرك كثيرة في القرآن ثم هي تترك كلها ويترك معها ما يؤيده من السنة الصحيحة وسيرة السلف الصالحين ، والأئمة المجتهدين ، ويؤِخذ بالشرك الصريح عملا بأقوال أناس من الميتين منهم من لا يعرف مطلقا ، وإنما سمي وليا عملا ببعض الرؤى والأحلام أو لاختراع بعض الطغام{[56]} ، ومنهم من يعرف في الجملة ولكن لا يعرف له تاريخ يوثق به ، ولا رواية يصح الاعتماد عليها .وإنما قدم الخلف الطالح كلام هؤلاء على كلام الله ورسوله وكلام أئمة السلف لأن العامة اعتقدت صلاحهم وولايتهم ، والعامة قوة تخضع لها الخاصة في أكثر الأزمان .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن الرؤية فيها علمية على قول الجلال .وقال الأستاذ الإمام:إنها بصرية وإنما سلطت على المعقول لإنزاله منزلة المحسوس ، كأنه قال:لو يتمثل لهم الأمر ويتشخص لرأوا أمرا هائلا عظميا لا يتصور نظيره وهو مجاز لا لطف منه ولا إبداع ، ويجوز أن يراد بالعذاب مظاهره فتكون مسلطة على محسوس .وقراءة{ ولو ترى} أي رأيت حال هؤلاء الظالمين ويومئذ لرأيت كذا وكذا وحذف جواب{ لو} معهود في كلام العرب وفي كلام الناس اليوم وذلك عند قيام القرينة على مراد المتكلم ولو إجمالا .يقولون في شخص تغير حاله وانتقل إلى طور أعلى أو أدنى:لو رأيت فلانا اليومويسكتونوالمراد معلوم والإجمال فيه مقصود ، لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ، ويخترع له الخيال ما يمكن من الصور ، و ( لو ) على كل حال هي التي لمجرد الشرط لا يراعى فيها امتناع لامتناع .
قال الأستاذ الإمام بعد تفسير اتخاذ الأنداد ومحبتهم على نحو ما تقدم وبيان أن المراد بالمحبة ما يجده المحب في نفسه من الأنس بالمحبوب والثقة به والاعتماد عليه واللجأ إليه على اختلاف أطوار الإنسان في وجدانه واعتقاده:إننا قد شرطنا في ابتداء قراءة التفسير أن نتكلم عن معنى القرآن من حيث هو دين جاء مكملا للأرواح وسائقا لها إلى سعادتها في طورها الدنيوي وطورها الأخروي .ولا يتم لنا هذا إلا بالاعتبار وهو أن ننظر في الحسن الذي يمدحه الله تعالى ويأمر به ونرجع إلى أنفسنا لنرى هل نحن متصفون به ؟ وننظر في القبيح الذي يذمه وينهي عنه كذلك ، ثم نجتهد في تزكية أنفسنا من القبيح وتحليتها بالحسن .وههنا يجب علينا أن نبحث وننظر هل اتخذ المسلمون أندادا كما اتخذ الذين من قبلهم أندادا أم لا ؟ فإن هذا أهم ما يبحث فيه قارئ القرآن .ثم قال ما مثاله:
اشتبه على بعض الباحثين السبب في سقوط المسلمين في الجهل العميمإلا أفرادا في بعض شعوبهم لا يكاد يظهر لهم أثروبحثوا في تاريخ الإسلام وما حدث فيه فكان له الأثر العظيم في الانقلاب ، وكان من أهم المسائل التي عرضت لهم في ذلك مسألة التصوف ، وظنوا أن التصوف من أعظم الأسباب لسقوط المسلمين في الجهل بدينهم وبعدهم عن التوحيد الذي هو أساس عقائدهم .وليس الأمر عندنا كما ظنوا ، وليس من غرضنا هنا ذكر تاريخه وبيان أحكامه وطرقه ، وإنما نذكر الغرض منه بالإجمال ، وما كان له بعد ذلك من الآثار .
ظهر التصوف في القرون الأولى الإسلام فكان له شأن كبير وكان الغرض منه في أول الأمر تهذيب الأخلاق وترويض النفس بأعمال الدين .وجذبها إليه وجعله وجدانا لها ، وتعريفها بأسراره وحكمه بالتدريج .ابتلي الصوفية في أول أمرهم بالفقهاء الذين جمدوا على ظواهر الأحكام المتعلقة بالجوارح والتعامل ، فكان هؤلاء ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين ويرمونهم بالكفر ، وكانت الدولة والسلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم ، فاضطر الصوفية إلى إخفاء أمرهم ، ووضع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم ، وعدم قبول أحد معهم إلا بشروط واختبار طويل ، فقالوا لا بد فيمن يكون منا أن يكون أولا طالبا فمريدا فسالكا ، وبعد السلوك إما أن يصل وإما أن يقطع ، فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطوارها زمنا طويلا ليعلموا أنه صحيح الإرادة صادق العزيمة لا يقصد مجرد الاطلاع على حالهم ، والوقوف على أسرارهم ، وبعد الثقة يأخذونه بالتدريج رويدا رويدا ، ثم إنهم جعلوا للشيخ ( المسلك ) سلطة خاصة على مريديه حتى قالوا يجب أن يكون المريد مع الشيخ كالميت بين يدي الغاسل ، لأن الشيخ يعرف أمراضه الروحية وعلاجها ، فإذا أبيح له مناقشته ومطالبته بالدليل تتعسر معالجته أو تتعذر فلا بد من التسليم له في كل شيء من غير منازعة ، حتى لو أمر بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لخيره ، وأن فعلها نافع له من غير منازعة ، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنه لخيره ، وأن فعلها نافع له ومتعين عليه ، فكان من قواعدهم التسليم المحض والطاعة العمياء ، وقالوا إن الوصول إلى العرفان المطلق لا يكون إلا بهذا .ثم أحدثوا إظهار قبور من يموت من شيوخهم والعناية بزيارتها لأجل تذكر سلوكهم ومجاهدتهم ، وأحوالهم ومشاهدتهم ، لأن التذكر من أسباب القدوة والتأسي ، والتأسي هو طريق التربية القويم عندهم وعند غيرهم .
فظهر من هذا الإجمال أن قصدهم في هذه الأمور كان صحيحا ، وأنهم ما كانوا يريدون إلا الخير المحض لأن صحة القصد وحسن النية أساس طريقهم ، ولكن ماذا كان أثر ذلك في المسلمين ؟ كان منه أن مقاصد الصوفية الحسنة قد انقلبت ولم يبق من رسومهم الظاهرة إلا أصوات وحركات يسمونها ذكرا يتبرأ منها كل صوفي ، وإلا تعظيم قبور المشايخ تعظيما دينيا مع اعتقاد بأن لهم سلطة غيبية تعلو الأسباب التي ارتبطت بها المسببات بحكمة الله تعالى بها يديرون الكون ويتصرفون فيه كما يشاؤون ، وأنهم قد تكلفوا بقضاء حاجة مريديهم والمستغيثين بهم أينما كانوا ، وهذا الاعتقاد ، هو عين اتخاذ الأنداد ، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف من الصحابة وأئمة التابعين والمجتهدين .
وزادوا على هذا شيئا آخر هو أظهر منه قبحا وهدما للدين وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر ، فإذا اقترف أحدهم ذنبا فأنكر عليه منكر قالوا في المجرم أنه من أهل الحقيقة فلا اعتراض عليه ، وفي المنكر أنه من أهل الشريعة فلا التفات إليه .كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين ، وأنه يحاسبهم بوجهين ، ويعاملهم معاملتينحاش للهنعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة ، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو أفهام العامة بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف التي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم ، فحسب العامة من هذا الوقوف عند ظاهره ، ومن آتاه الله بسطة في العلم ففهم منه شيئا أعلى مما تصل إليه أفهام العامة فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ممن يجد ويجتهد للتزيد من العلم بالله وسننه في خلقه .فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه ، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها ، فهذا ومن آتاه الله نصيبا من هذا العلم كان أتقى لله من سواه{ إنما يخشى الله من عباده العلماء} ( فاطر:28 ) .
هكذا كان القومالصوفية الحقيقيون في طرف ، والفقهاء في طرف آخر ، وبعد ما فسد التصوف وانقلب من حال إلى حال مناقضة لها ، وضعف الفقه فصار مناقشة لفظية في عبارات كتب المتأخرين ، اتفق المتفقهة الجامدون ، والمتصوفة الجاهلون ، وأذعن أولئك إلى هؤلاء واعترفوا لهم بالسر والكرامة ، وسلموا لهم ما يخالف الشرع والعقل على أنه من علم الحقيقة ، فصرت ترى العالم الذي قرأ الكتاب والسنة والفقه يأخذ العهد من رجل جاهل أمي ويرى أنه يوصله إلى الله تعالى .فإن كان كتاب الله وسنة رسوله وما فهم الأئمة واستنبط الفقهاء منهماكل ذلك لا يفيد معرفة الله تعالى المعبر عنها بالوصول إليه ، فلماذا شرع الله هذا الدين ، والناس أغنياء عنه بأمثال هؤلاء الأميين وأشباه الأميين ، وهل القصور إذا فيما نزل الله تعالى أم في بيان الرسول له وبيان الأئمة لما جاء عن الله تعالى والرسول ؟ حاش لله ولكتابه ولرسوله ، فلا طريق لمعرفته عز وجل والوصول إلى رضوانه غير ما نزله من البينات والهدى ، وإنما كان غرض الصوفية الصادقين فهم الكتاب والسنة مع التحقيق بمعارفهما ، والتخلق والتأدب بآدابهما ، وأخذ النفوس بالعمل بهما ، من غير تقيد لأهل الظاهر ، ولا جمود على الظواهر .
ولقد تشوهت سيرة مدعي التصوف في هذا الزمان وصارت رسومها أشبه بالمعاصي والأهواء من رسوم الذين أفسدوا التصوف من قبلهم ، وأظهرها في هذه البلاد الاحتفالات التي يسمونها"الموالد "ومن العجيب أن تبع الفقهاء في استحسانها الأغنياء فصاروا يبذلون فيها الأموال العظيمة زاعمين أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى ، ولو طلب منهم بعض هذا المال لنشر علم أو إزالة منكر أو إعانة منكوب لظنوا به وبخلواولا يرون ما يكون فيها من المنكرات منافيا للتقرب إلى الله تعالى ، كأن كرامة الشيخ الذي يحتفلون بمولده تبيح المحظورات ، وتحل للناس التعاون على المنكرات .
فالموالد أسواق الفسوق ، فيها خيام للعواهر ، وحانات للخمور ، ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات ، الكاسيات العاريات ، ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس .وبعض هذه الموالد يكون في المقابر ، ويرى كبار مشايخ الأزهر يتخطون هذا كله لحضور موائد الأغنياء في السرادقات والقباب العظيمة التي يضربونها وينصبون بها الموائد المرفوعة ، ويوقدون الشموع الكثيرة ، احتفالا باسم صاحب المولد ، ويهنئ بعضه بعضا بهذا العمل الشريف في عرفهم .
وذكر الأستاذ الإمام عند شرح مفاسد الموالد هنا أن بعض كبار الشيوخ في الأزهر دعوه مرة للعشاء عند أحد المحتفلين فأبى فقيل له في ذلك فقال:إنني لا أحب أن أكثر سواد الفاسقين ، فإن هذه الموالد كلها منكراتووصف ما يمر به المدعو قبل أن يصل إلى موضع الطعام .ثم قال لشيخ صديق لصاحب الدعوة:كم ينفق صاحبك في احتفاله بالمولد ؟ قال:أربعمائة جنيه .قال الأستاذ الإمام لا شك أن هذا في سبيل الشيطان فلو كلمت صاحبك في أن يجعل ذلك لجماعة من المجاورين في الأزهر يستعينون به على طلب العلم فيكون بذله شرعيا ، وهؤلاء المجاورون يذكرونه بخير ويدعون له .فأجاب ذلك الشيخ قائلا:إن الكون يلزم أن يكون فيه من هذا وهذا .فقال الأستاذ:هذا الذي أريد فإن كوننا ليس فيه إلا هذه النفقات في الطرق المذمومة ، فأحب أن ينفق صاحبك على نشر على الدين ليكون بعض الإنفاق عندنا في الخير ويبقى للموالد أغنياء كثيرون .فقال الشيخ حينئذ:أما قرأت حكاية الشعراني مع الزمار إذ رأى شيخا كبيرا ينفخ في مزمار والناس يتفرجون عليه فاعترض عليه في سره فما كان الشيخ إلا أن قال:يا عبد الوهاب أتريد أن ينقص ملك ربك مزمارا ؟ فعلم الشعراني أنه من أولياء الله تعالى .
قال الأستاذ:ثم تركني المشايخ بعد سرد الحكاية وذهبوا إلى الموالد ، فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرعاتخذوا الشيوخ أندادا ، وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق ، بعد أن كانت للعبرة وتذكر القدوة ، وصارت الحكايات الملفقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على الخير ، ونتيجة ذلك كله أن المسلمون رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أندادا له وصاروا كالإباحيين في الغالب ، فلا عجب إذا عم فيهم الجهل ، واستحوذ عليهم الضعف ، وحرموا ما وعد الله المؤمنين من النصر ، لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين .
ولم يكن في القرن الأول شيء من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ، ولا يشهد لهذه البدع كتاب ولا سنة ، وإنما سرت إلينا بالتقاليد أو العدوى من الأمم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم .فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه .
وهناك نوع آخر لم يكن أثره في الفتك بهم بأضعف من أثر الأول ، وهو ترك الاهتداء بالكتاب والسنة واستبدال أقوال الناس بهما .فلو دخل في الإسلام رجل عاقل أو شعب مرتق لحار لا يدري .بما يأخذ ؟ ولا على أي المذاهب والكتب في الأصول والفروع يعتمد ، ولصعب علينا إقناعه بأن هذا هو الدين القيم دون سواه ، أو بأن هذه المذاهب كلها على اختلافها شيء واحد .ولو وقفنا عند حدود القرآن وما بينه من الهدى النبوي لسهل علينا أن نفهم ما الحنفية السمحة التي لا حرج فيها ولا عسر ؟ وما الدين الخالص الذي لا عوج فيه ولا خلف ؟ ولكننا إذا نظرنا في أقوال الفقهاء وتشعبها ، وخلافاتهم وعللها ، فإننا نحار في ترجيح بعضها على بعض إذ نجد بعضها يحتج عليه بحديث صحيح وهو ظاهر الحكمة معقول المعنى ولكنه غير معتمد عندهم ، بل يقولون فيه:المدرك قوي ولكنه لا يفتى به .ولماذا ؟ لأن فلانا قالفقول رجل من رجال كثيرين جدا نجهل تاريخ أكثرهم يكفي لترك السنة الصحيحة وإن ظهر أن المصلحة فيما جاءت به السنة ، وبهذا قطعت الصلة بين ما نحن فيه وبين أصل الدين وينبوعه .
ونحن لا نطعن في أولئك القائلين أو المرجحين ، سواء منهم من كان تاريخه معروفا لنا ومن كان غير معروف ، بل نحسن فيهم الظن ونقول:إنهم قالوا بما وصل إليه عملهم ، ولم يجعلوا أنفسهم شارعين بل باحثين ، وإنا نسترشد بكلامهم على أنهم دالون ومبينون ، لا على أنهم شارعون ، بل نقول إنه يجب على ذي الدين أن ينظر دائما إلى كتابه حتى لا يختلط ولا يشتبه عليه شيء من أحكامه ، ولا يجوز لأحد أن يرجع في شيء من عقائده وعبادته إلا إلى الله تعالى ، فإن كانت هناك واسطة فهي واسطة الدلالة والتبليغ والتبيين لما نزل الله ، وتطبيقه على ما نزل لأجله من حياة الروح والكمال الإنساني .
فيجب علينا أن نعتقد أن الحكم لله تعالى وحده لا يؤخذ الدين من غيره ، كما يجب علينا أن نعتقد بأن لا فعل لغيره تعالى ، فلا نطلب شيئا إلا منه ، وطلبنا منه يكون بالأخذ بالأسباب التي وضعها وهدانا إليها ، فإن جهلنا أو عجزنا فإننا نلجأ إلى قدرته ، ونستمد عنايته وحده ، وبهذا نكون موحدين مخلصين له الدين كما أمرنا في كتابه المبين ، ومن خرج على هذا كان من متخذي الأنداد{ ومن يضلل الله فما له من هاد} ( الرعد:33 ) .
وبقي صنف آخر يشبه أن يكون من الأنداد وهم العامة ، والذين اتخذوهم أندادا هم علماء الدين فإنهم يحلون لمراضاتهم ويحرمون ويخالفون النصوص الصريحة بضروب سخيفة من التأويل لموافقة أهوائهم ، فإن لم يفتوهم بخلاف النص التماسا لخيرهم أو هربا من سخطهم كتموا حكم الله من أجل ذلك ؟ فترى أحدهم إذا سئل:أهذا حق أم باطل أم حرام ؟ يغض من صوته بالجواب ، ولا يجهر بالقول مداراة للعوام ، إذا كان الجواب على غير ما هم عليه ، ولاسيما إذا كان هؤلاء العامة من الأغنياء وأصحاب السلطة .ونقول:مداراة للعوام .حكاية لقومهم إذ يسمون النفاق والمحاباة في الدين مداراة محمودة ، وكذلك كان الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ممن قبلهم يسمون كتمانهم بأسماء محمودة ، ولكن الله تعالى لعنهم على ذلك وسجل لهم الكفر والفسوق والعصيان .فهل يختلف حكمه فيرضى لهؤلاء بأن يؤثروا العامة على ربهم ويجعلونهم أندادا له يحبونهم كحبه أو أشد ؟ .
ترى العالم من هؤلاء ينتسب إلى الشرع ويحترم لأجله وهو مع ذلك يتبع هوى من لا يعرف الشرع ، فهم من الذين إذا أوذوا في الله جعلوه فتنة الناس كعذاب الله .فلا يتخذون الله وليا ولا نصيرا . فهل يكون المرء مؤمنا إذا كان يترك دينه لأجل الناس ؟ أم شرط الإيمان أن يصبر في سبيله على إيذاء الناس ؟{ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} ( العنكبوت:2 ) ؟ الخ .
/خ167