الصوم
ذكر الله تعالى في آية البر ، أن من البر إتيان المال مع حبه ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأشار إلى الجهاد ، ولم يذكر الصوم والحج ، وقد ذكر هنا الصوم ، وسيذكر من بعد الحج في محكم آياته ، وبذلك تجتمع الأركان الخمسة التي هي عماد الإسلام ، وهي الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا .
وقد بين الله تعالى صوم رمضان في هذه الآيات الكريمات التي تلوناها ونتكلم في معناها الآن ، قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} كتب بمعنى فرض لأنه قرره الله تعالى ، وكتبه حتى صار مكتوبا على المؤمنين ، وقد أكد سبحانه الفرضية بقوله تعالى عليكم ، وبأنه شريعة النبيين أجمعين ، ولذا قال تعالى:{ كما كتب على الذين من قبلكم} وأنه سبيل لتقوى النفس ، ولذا قال:{ لعلكم} وذكر أنه أياما معدودات معروفة القدر ، مبينة الابتداء والانتهاء ، وقد بينها سبحانه وتعالى في قوله تعالت كلماته:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} .
والصوم في اللغة الإمساك ، وذلك كقول مريم فيما حكى القرآن:{ فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا 26} [ مريم] ، والصوم في المعنى الديني القرآني الظاهر هو الإمساك عن الطعام والشراب ، وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما قال تعالى فيما سيأتي:{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل . . . 187} [ البقرة] بهذا النص الكريم يحد الصيام من طلوع الفجر ، حتى يدخل الليل وذلك بغروب الشمس .
كتب الصوم على الذين آمنوا فهو فرض مؤكد ، وقد قال:{ كما كتب على الذين من قبلكم} من أهل الديانات السماوية كديانة موسى عليه السلام ، وديانة عيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والتشبيه كما قال معاذ بن جبل من فقهاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم:التشبيه واقع على أصل الصوم ، لا على صفته وعدد أيامه . وهذا يكفي في التشبيه فهو يثبت أن الصوم شريعة في الشرائع السماوية كلها ، وهذا يدل على كمال فرضيته ، وأنه لا يختص بالمسلمين وحدهم بل يعم الديانات السماوية كلها .
وقد بين الله تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله تعالى:{ لعلكم تتقون} أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين ، فتتقوا المعاصي ، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم ، وذلك لأن الصوم يربي النفس على الضبط ، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات ، ولذاك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور ، ولا يعمل به ، ولا يجترح المنهيات بلسانه ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ){[175]} وقال صلى الله عليه وسلم:( الصوم جنة ){[176]} وإن الصوم بهذه المعاني الجليلة المهذبة للنفس الضابطة للإرادة كان من أعظم العبادات عند الله تعالى ، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه:( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ){[177]} ، وكان الصوم من بين العبادات مختصا بأنه لله تعالى ، لأنه تجرد روحي ، وانخلاع من الأهواء والشهوات وعلو بالنفس الإنسانية عن العالم المادي وشهواته وهو سر بين العبد وربه .