وحد الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة ، ولا مرهقة ، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان .
وإن الصيام في هذه الأيام المعدودات فرض ، رخص فيه لذوي الأعذار أن يفطروا ويؤدوا بدل الأيام ولذا قال تعالى:{ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام} .
العدة العدد من الأيام ، وقال أحمد:إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان ، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان ، وقال أبو حنيفة:إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر ، ويحسن أن يكون عند القدرة ، والمرض الذي يبيح الإفطار قسمان:أحدهما:المرض الذي لا يسع المريض فيه أن يصوم قط ، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء ، والقسم الثاني– مرض يمكن معه الإفطار والصوم ، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات التي يجيز الشارع احتمالها ، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة ، أو يطيل مدته ، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض .
والسفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة ، فقيل سفر يوم وليلة:وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام ، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار ، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر ، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:( السفر قطعة من العذاب ){[178]} ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف .
وهنا يثار بحث:أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر ، أم الصوم ؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم ، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى ، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة ، وإلا فالرخصة أفضل ، وكذلك في حال السفر ، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد ، فالأفضل الصوم ، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة .
والسفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه ، ولذا أرى أن الأفضل الصوم ، من غير أن نقرر وجوبه حتى لا نكون معاندين لرخص الله ، فإن الله تعالى يجب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه .
والسفر أقسام ثلاثة:سفر لجهاد في سبيل الله ، وهذا لا يحسن فيه الصوم ، والا خالف السنة وعارض الرخصة ، لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى ، وفتح مكة ، كانت الأولى في السابع عشر من رمضان ، والثانية في الثالث عشر ، وقد أفطر فيهما النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه من المجاهدين .
والقسم الثاني:السفر في مباح كالتجارة ، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى المسافر على النحو الذي ذكرناه ، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية .
القسم الثالث:السفر للمعصية ، وكثيرون من الفقهاء لا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره ، والرخصة نعمة ، والمعصية لا تبرر النعمة .
وهناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما ، وقد قال الله تعالى فيه:{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته:الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة . . ، فقوله تعالى:{ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . . . 286} [ البقرة] معناه ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا .
والمعنى على ذلك لقوله تعالى:{ وعلى الذين يطيقونه} أي يتكلفونه مشقة هي أقصى الطاقة لا يستطيعون المداومة عليها ، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم ، وقد قال ابن مسعود في تفسير "يطيقونه"أي يصلون إلى أقصى المشقة ، ولا أمل لهم ، في قضاء وقال ابن عباس:إن قوله تعالى:{ وعلى الذين} نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لا يصومان إلا بمشقة . .
وقد أفطر أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما طال عمره ، فأفطر سنتين في آخر حياته ، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم .
ولقد قال تعالى بعد ذلك:{ فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} .
{ فمن تطوع} الفاء هنا للإفصاح ، أي إذا كان كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا ، أي فمن قصد الطاعة ، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة ، فالتطوع هنا ليس النافلة كما قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها ، بل تخضع للغة ، والآثار النبوية فقط ، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا ، فهو خير له وقوله تعالى:{ وأن تصوموا خير لكم} تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم ، وقال تعالى:{ إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم ، وما الواجب عليكم ، وقد ذكر سبحانه التعليق ب "إن"حثا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر ، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر ، والصبر صفة المؤمنين ، كما أشرنا من قبل .
ويلحق بذوي الأعذار الحامل والمرضع ، وقد اختلف في شأنهما أهما ملحقان بالمرضى مرضا قريب البرء فيكون لهما الإفطار وعليهما عدة من أيام أخر ، إذ هما كحال المريض الذي يصعب الصوم عليه ، ويضره الصوم ، أو يضر ما في أرحام الحوامل ، ومن يتغذى منهما ، ونظر آخرون إلى أن المرأة الولود ، وهي التي ينبغي التزوج منها ، إما أن تكون حاملا ، وإما أن تكون حائلا ، وفي هذه الحال تكون مرضعا فتتردد بين الإرضاع والحمل ، ولا فرصة لأن تكون لها عدة من أيام أخر ، ولذلك تدخل فيمن لا يطيقون ، ويكون عليهن فدية ، وروي عن ابن عباس:لا فدية ، وتكون كالمريض بمرض مزمن إذا كان لا يجد ما يفدي به ، يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر .