] أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ[ هناك قولان في المقصود بهذه الأيام:
أحدهما: إنها غير شهر رمضان ،وكانت ثلاثة أيام من كلّ شهر ،ثُمَّ نُسخ ،عن معاذ وعطا وعن ابن عباس وروي ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم عاشوراء ،عن قتادة .ثُمَّ قيل: إنه كان تطوّعاً .وقيل: بل كان واجباً .واتفق هؤلاء على أنَّ ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان .
والآخر: إنَّ المعني بالمعدودات هو شهر رمضان ،عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي وأبو مسلم ،وعليه أكثر المفسرين ،قالوا: أوجب سبحانه الصوم أولاً فأجمله ،ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر ،ثُمَّ بيّن أنها أيام معلومات وأبهم ،ثُمَّ بيّنه بقوله:] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[،قال القاضي: وهذا أولى ،لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى ،ولأنَّ ما قالوه زيادة لا دليل عليه » .
] فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[ فليس على المريض صيام في شهر رمضان ،والظاهرمن مناسبة الحكم والموضوعأنَّ المراد به المرض الذي يضر به الصوم ،لأنَّ ذلك ما يعتبر عُسراً على المكلّف ،فلا يشمل الصوم الذي ينفع المريض أو الذي لا يترك أي أثر ضار على صحته .وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعدّدة في هذا الشأن .
أمّا السفر ،فقد حُدِّدَت كميته بما ورد في السنة الشريفة التي اختلفت الرِّوايات بشأنها ،مما أوجب اختلاف المذاهب فيها بين السنة والشيعة ،مما تعرّضت له كتب الفقه .
الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة ؟
ولكن هنا بحثاً آخر لا بُدَّ من الإشارة إليه ،وهو أنَّ الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة ؟.فذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف ،وعمر بن الخطاب ،وعبد اللّه بن عمر ،وأبي هريرة ،وعروة بن الزبير[ 9] إلى أنه عزيمة ،وهو المروي عن أئمة أهل البيت ( ع ) ،وهو الظاهر من الآية الكريمة في قوله تعالى:] فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[،فإنَّ الظاهر منها هو أنَّ صيام الأيام المعدودات فرض غير المسافر والمريض ،أمّا هما فإنَّ فرضهما هو أيام أُخر ،في غير شهر رمضان ،لأنَّ السياق جرى مجرى العزيمة والفرض وذهب أكثر أهل السنّة إلى أنه رخصة ،وقدّروا في الآية كلمة: فأفطر ،فقالوا ،إنَّ تقديرها فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيام أُخر ...ولكن هذا ضعيف بأنَّ التقدير خلاف الظاهر ولا يُصار إليه إلاَّ بدليل ،ولا دليل في الآية عليه ،وبأنَّ هذا التقدير لا يمنع من العزيمة لأنَّ الحديث عن الإفطار لا يعني إلاَّ جوازه في مقابل التحريم ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام .
متى تجب الفدية ؟
] وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[.الإطاقةكما ذكره بعضهمصرف تمام الطاقة في الفعل ،ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة .والفدية هي البدل المالي عن الصوم .والظاهر من الآيةبمقتضى السياقهو حالة الذين يستطيعون الصوم بجهد ومشقّة ،وهم الشيوخ الذين يجهدهم الصوم ،فإنَّ مثل هؤلاء لا يكلّفون بالصوم ولا يكلّفون بالقضاء ،بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية .وقد ورد ذلك في تفسير العياشي عن الإمام محمَّد الباقر ( ع ) قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش .
وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الفقرة تدلّ على الرخصة ،على أساس تخيير اللّه للقادرين بين الصوم وبين الإفطار ودفع الفدية ،ثُمَّ نسخت بقوله تعالى:] فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[.ولكن ذلك مردود بدراسة الآيات التي تدلّ على وحدة الفرض والسياق ،ولا يحتاج ذلك إلاَّ إلى ذوق سليم وحسّ مرهف .
] فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ[.ربما كان المقصود منه التطوّع بالزيادة على الفدية ،بأن يعطي الزيادة على ما وجب عليه ،كما ورد في بعض الأحاديث أنَّ الأفضل مدّان من الطعام .وفسّرها صاحب الميزان بإيتاء الصوم عن رضى ورغبة ،لأنَّ كلمة التطوّع تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب ،بل تدلّ على الطوع في مقابل الكره ؛وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبة ورضى وقناعة .ولكن هذا خلاف الظاهر لظهور كلمة التطوّع في الفعل الذي يأتي به الإنسان من دون إلزام ،باعتبار أنَّ الإلزام يوحي بالضغط والكره ،بينما الاستحباب لا يوحي إلاَّ بالتوسعة والتخفيف .وأمّا ما ذكره من أنَّ استعمال الكلمة في الفعل المستحب اصطلاح جديد فهو غير دقيق ؛لأنَّ القضية ليست قضية استعمال الكلمة في المعنى ،بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يفهم من مدلول الواجب والمستحب .
] وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تعْلَمُونَ[،الظاهر منهابقرينة السياقهو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء ،فتباح لهم الفدية ،لإعلامهم بأنَّ الفدية ،وإن كانت جائزة ،إلاَّ أنَّ الصوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية .وهناك احتمال بأنَّ الفقرة واردة في الحديث عن الصوم ،بأنه خير للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس ،وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كلّ تشريع ،لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة:] يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [ الجمعة:9] وقوله تعالى:] وَإِبْرَهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّه وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [ العنكبوت:16] .
وبهذا يبطل قول من قال: إنَّ الصوم كان في بداية التشريع واجباً تخييرياً ،وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية ،ثُمَّ نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم فأصبح واجباً عينياً .وهو خلاف الظاهر .