ما معنى نزول القرآن في شهر رمضان ؟{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
في هذا التأكيد القرآني على نزول القرآن في شهر رمضان ،في هذه الآية ،وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر ،إيحاءٌ بأنَّ عظمة هذا الشهر مستمدة من مناسبة نزول القرآن فيه .وقد اختلف الحديث في تحليل نزول القرآن في هذا الشهر ،فهناك من ذكر أنَّ المراد به أول نزوله ،وهناك من ذكر أنه النزول إلى اللوح المحفوظ من البيت المعمور ،وهناك من حاول أن يجعل من مفهوم الكتاب معنى غامضاً لا نستطيع إدراكه ،فهو الذي نزل على قلب النبيّ محمَّد ( ص ) دفعة واحدة ثُمَّ نزل عليه تدريجياً .وقد كان السبب في هذا الاختلاف ،ظهور هذه الآية وغيرها في نزوله دفعة ،بينما الآية الكريمة تنص على أنه نزل تدريجياً:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ ترتيلا}
الفرقان:32 والآية الأخرى{ وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مُكث ونزلناه تنزيلاً}الإسراء:106 .
كما أنَّ هناك وجهاً آخر لهذا الاختلاف ،وهو أنَّ النزول والبعثة كانا في موعد واحد ،مع أنَّ المعروف أنَّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب ،وأنَّ أول ما أنزل:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}العلق:1 فكيف يمكن التوفيق بين الآية وبين ذلك ؟!
والواقع أنَّ الظاهر من القرآن الكريم هو أنَّ إنزاله كان في شهر رمضان ،ولا نجد هناك فرقاً بين الآيات التي تتحدّث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان ،وبين الآيات التي تتحدّث عن إنزاله على مكث أو تدريجياً ،ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنى غامض خفي في علم اللّه ،وذلك لا من جهة أننا نريد أن نفسّر القرآن تفسيراً حسياً مادياً كما يفعل الحسيون ،بل من جهة أنه لا دليل على ذلك، في ما حاول بعض المفسّرين أن يقيم الدليل عليه مما لا مجال للخوض في النقاش فيه ،لأننا لا نجد فيه كبير فائدة .
وعلى ضوء ذلك ،فإنَّ هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالرِّوايات التي توقّت البعثة في رجب، أو تعيّن أوّل الآيات النازلة في سورة اقرأ ؛ولذلك فإنَّ من الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال ،كما أنَّ كلمة القرآن تطلق على القليل والكثير بما يشمل السورة والآية والمجموع .والظاهر أنَّ هذا المقدار كافٍ في الجانب التفسيري من القضية ،لأنَّ الباقي يدخل في باب التخمين والتأويل من غير فائدة تذكر .
القران هدى للنّاس:
{ هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
هذه هي قيمة القرآن وأهميته في حياة النّاس ؛فهو كتاب هدى يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السَّلام ،ويخرجهم من الظلمات إلى النور .وهو كتاب البينات التي توضح للنّاس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كلّ شبهة ،ويفرّق بين الحقّ والباطل .وقد بيّنا في بداية هذا التفسير أنَّ معنى كون القرآن هدى ،هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها ،فلا مجال للإشكال بأنَّ هناك من لا يهتدي بالقرآن ،لأنَّ الهدى هنا بمعنى الشأنية لا بمعنى الفعلية ؛فراجع .
بين القضاء واليُسر:
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .هذا تأكيد على الحكم الذي استفدناه من الآية السابقة ولكن بشكل أوضح ،فإنَّ المراد من الشهود الحضور في مقابل السفر .أمّا المريض والمسافر فيجب عليهما الصوم في أيام أخر في غير شهر رمضان ،ولا يجب عليهما في هذا الشهر ،ولا يشرّع لهما ،وقد تقدّم الحديث عن موضوع الرخصة والعزيمة في صوم المسافر .
وقد ذكر البعض أنَّ المراد بشهود الشهر رؤية الهلال ،لتكون الآية دالة على أنَّ الصوم مشروط بالرؤية ،كما جاء في الحديث الشريف عن النبيّ محمَّد ( ص ): «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » .ولكن لا دليل في الآية على ذلك ،بل ربما كان ذكر السفر في مقابل ذلك دليلاً على أنَّ المراد به الحضور في البلد .وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمَّد الباقر ( ع ) أنه قال لما سئل عن هذه ما أبينها لمن عقلها ،قال: «من شهد رمضان فليصمه ،ومن سافر فيه فليفطر » .وقد روي أيضاًكما في مجمع البيان«عن علي وابن عباس ومجاهد وجماعة من المفسّرين أنهم قالوا: «من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر ،فعليه أن يصوم الشهر كلّه »[ 16] ،وهذا دليل على أنَّ المراد به الحضور في البلد .
{ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .هذا بيان للحكمة في تشريع القضاء على المسافر والمريض ،وأنَّ اللّه أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التيسير ،لأنَّ اللّه قد أرسل نبيّه بالشريعة السهلة السمحة .وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الآية أنَّ الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة ،ولكن لا دليل لهم في ذلك ،لأنه يمكن أن يكون اليسر في إسقاط الصوم عنهم ،وإن كان ذلك إلزامياً .
وربما يستفاد من هذه الآية قاعدة فقهية حاكمة على أدلّة الأحكام العامة ،وهي قاعدة «اليُسر » أو «لا حرج » ،فهي دالة على أنَّ اللّه يريدفي كلّ تشريعاتهأن ييسر للنّاس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون ،ما يوحي بأنَّ كلّ حكم يوقع النّاس في العُسر فهو غير مجعول في الشريعة ،حتى لو كان الدليل الدال عليه يدلّ على ذلك بإطلاقه وعمومه .وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالة في الصلاة إلى حالةٍ أخرى ،حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقة والعُسر ،كالقيام بالنسبة إلى الجلوس ،والوضوء بالنسبة إلى التيمم ونحو ذلك .
{ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ}في صيام الأيام التي فاتت المكلّف في شهر رمضان ،ليكمل له بذلك الصيام الذي فرضه عليه .{ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .فسّره المفسّرون بالتكبيرات التي يكبّرها المصلون في صلاة العيد ،ولعلّ الظاهر أنها تعليل للتشريع العبادي في الصوم الذي يوحي بالتذلل ،والخضوع ،والانقياد ،والوعي الروحي للربوبية الشاملة والألوهية العظيمة في موقع العظمة والكبرياء ،وعلى هدايته لدينه الذي به يعرف ربّه في توحيده ،وقدرته ،وكلّ مواقع العظمة عنده ،ليحسّ الإنسان بأنَّ اللّه هو كلّ شيء في وجوده وفي حركته ،ولا شيء لأيّ مخلوق إلاَّ من خلاله ،فهو الذي يمنحهم القوّة والعظمة والغنى والسعة في حياتهم ،ولا يملكون ،في ذواتهم ،نفعاً ولا ضراً ...وهذا ما يجعل المؤمن واعياً لمقام ربّه ،ومنفتحاً على مسؤوليته في توحيده في العبادة والطاعة ،فيكبّر اللّه على ذلك كلّه ،في روحه وعقله وشعوره ولسانه وعمله .
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}على ما رزقكم اللّه من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم ،فإنَّ ذلك من النعم التي تستحق الشكر ،وأي نعمة أفضل من النعمة التي تهيّىء للإنسان سعادة الدارين .