يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان ".
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه:أن الزبور أنزل لثنتي عشرة [ ليلة] خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مردويه .
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى:( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر:1] . وقال:( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان:3] ، ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال:وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى:( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله:( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقوله:( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس:إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .
وفي رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال:نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله:( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) [ الفرقان:32 ، 33] .
[ قال فخر الدين:ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله:( الذي أنزل فيه القرآن ) أي:في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا] .
وقوله:( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ) وبينات ) أي:ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال:إلا "شهر رمضان "ولا يقال:"رمضان "; قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة ، قال:لا تقولوا:رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا:شهر رمضان .
قال ابن أبي حاتم:وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .
قلت:أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في] المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال:"باب يقال رمضان "وساق أحاديث في ذلك منها:"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه "ونحو ذلك .
وقوله:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة . ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال:( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) معناه:ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ; ولهذا قال:( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) أي:إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية:
إحداها:أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح .
الثانية:ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله:( فعدة من أيام أخر ) والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحتم ; لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال:"فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان] في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر] وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .
الثالثة:قالت طائفة منهم الشافعي:الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة:بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال:"من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جناح عليه ". وقال في حديث آخر:
"عليكم برخصة الله التي رخص لكم "وقالت طائفة:هما سواء لحديث عائشة:أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال:يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال:"إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ". وهو في الصحيحين . وقيل:إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه ، فقال:"ما هذا ؟ "قالوا:صائم ، فقال:"ليس من البر الصيام في السفر ". أخرجاه . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما:من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة .
الرابعة:القضاء ، هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان:أحدهما:أنه يجب التتابع ، لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني:لا يجب التتابع ، بل إن شاء فرق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل ; لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر . ولهذا قال تعالى:( فعدة من أيام أخر ) ثم قال:( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره ".
وقال أحمد أيضا:حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عروة الفقيمي ، حدثني أبي عروة ، قال:كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه:علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن دين الله في يسر "ثلاثا يقولها .
ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال:حدثنا أبو التياح ، سمعت أنس بن مالك يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يسروا ، ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا ". أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيحين أيضا:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن:"بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ". وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بعثت بالحنيفية السمحة ".
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره:حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن محجن بن الأدرع:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة ، فقال:"أتراه يصلي صادقا ؟ "قال:قلت:يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسمعه فتهلكه ". وقال:"إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ، ولم يرد بهم العسر ".
ومعنى قوله:( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ) أي:إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم .
وقوله:( ولتكبروا الله على ما هداكم ) أي:ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال:( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة:200] وقال:[ ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم )] [ النساء:103] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [ الجمعة:10] وقال:( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) [ ق:39 ، 40] ; ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس:ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ; ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية:( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ; لظاهر الأمر في قوله ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .
وقوله:( ولعلكم تشكرون ) أي:إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .