وبعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان ، فقال تعالى:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} .
أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي كان أول نزول القرآن فيه ، فقد أنزله تعالى في ليلة القدر وهي في العشر الأواخر منه ، كما قال تعالى:{ إنا أنزلناه في ليلة القدر 1 وما أدراك ما ليلة القدر2 ليلة القدر خير من ألف شهر 3 تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر 4 سلام هي حتى مطلع الفجر 5} [ القدر] .
وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم ، لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدأ الوحي ، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه نور الأرض وإشراقها ، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية ، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور ، ونعمة إرسال نبي الرحمة ، فقد قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107} [ الأنبياء] .
ولقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ما خلاصته:أنه في شهر رمضان نزلت هداية الله تعالى من السماء إلى الأرض فناسب ذلك أن يفرض فيه الصوم ، لأن الصوم فبما فيه من إمساك عن شهوتي البطن والفرج ، وفيه علو من الأرض إلى السماء بالتجرد الروحي الذي كان في الصوم ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الذي هو احتفال بذكرى البعث المحمدي:( إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فمن صامه وقامه احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ){[179]} .
وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس ، فقال:{ هدى للناس} أي حال كونه هاديا للناس ، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية ، وهو مع ذلك فيه آياته البينات ، ولذا قال تعالى:{ وبينات من الهدى} أي إن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها ، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل ، والظلم والعدل والشورى والاستبداد ، والإصلاح والإفساد ، وعمران الأرض وخرابها .
هذا شهر رمضان شهر البركات ، ولقد بينه سبحانه وتعالى ، والابتداء يرمز إلى الانتهاء فقال تعالى:{ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وقد تكلمنا في أعذار المرض والسفر والعجز في الآيات السابقة .
وقال تعالى في ابتدائه{ فمن شهد منكم الشهر} ، ويريد سبحانه بالشهر هنا هلال رمضان ، وشهده أي حضره ورآه ، وعبر عن الهلال بالشهر ، لأن العرب كانت ترى الهلال ويراد الشهر عرفا عندهم ، وهذا في الأصل مجاز ، والمجاز إذا اشتهر صار عرفا وإطلاق الشهر وإرادة الهلال من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب ، وذلك من علاقات المجاز المرسل ، لأن الهلال أمارة ابتداء الشهر ، فكان جاريا مجرى السبب ، ولأن الاعتبار بالرؤية ، والرؤية لا تكون إلا لمحسوس والشهر عدد من الأيام يعد بالحساب ، وذلك معنى نعيش فيه ولا نراه ، والهلال هو الذي يرى فكان التعبير بالشهر عنه تعبير بالمدلول على الدال الذي يرى ويعلن الابتداء .
وإذا كان الهلال دليل الابتداء فهو الذي نيط به الوجود ، فيكون دليلا على الانتهاء ، برؤية هلال الشهر فهو دليل الابتداء والانتهاء معا ، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال:( صوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ){[180]} وهذا النص يدل على أمرين:
أولهما:أن الصوم يجب عند رؤية الهلال ، في ابتداء الشهر ، والفطر عند رؤية هلال شوال أي الشهر الثاني ، وإنه إن غم أولا أو آخرا فتكمل العدة ثلاثين يوما ، فإن غم الهلال أولا أكمل عدة شعبان ثلاثين وذلك بعد ارتقاب الهلال في التاسع والعشرين من شعبان ، فتكمل ثلاثين إن غم ، وكذلك هلال شوال إذا غم تكمل عدة رمضان .
الأمر الثاني:الحديث يدل على أن الهلال واحد ، وذلك أنه القمر في أول منازله ، والقمر واحد ، في كل الشهور وفي كل شهر يتغير من هلال حتى يصير بدرا ، ثم يتغير من بعد ذلك حتى يكون المحاق ، ويرتقب من بعد ذلك الهلال ، فالأخير ، والأول واحد .
ويثار في هذا الموضوع أمران:
أولهما:إذا غم الهلال تعرف الهلال أولد أم لم يولد بالحساب ، وقد كان معروفا بتتبع أدوار القمر في منازله من حاله هلالا ، حتى يصير بدرا ، ثم يضؤل من بعد حتى يختفي في السرار ، أم نقف عند حد الغمة فتكون ثلاثين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه في المنزلة الأولى ولا معقب لقوله ؟ رأي الجمهور الأكبر من العلماء الوقوف عند النص ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمي عليكم فأكملوا العدد ){[181]} وإن الشريعة نزلت ابتداء لقوم أميين لا يعرفون حساب النجوم ، فيكون على قدر ما يحسون ويرون ، وجاء الحديث بذلك .
وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة فقالا:يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، حتى إنه لو كان صحوا لرؤي لقوله صلى الله عليه وسلم:( فإن أغمي عليكم فاقدروا له ){[182]} أي استدلوا عليه بمنازله ، وقدروا إتمام الشهر بحسابه"{[183]} .
وقد قال بذلك بعض الشافعية ، وروى ابن نافع عن مالك أنه أجاز ابتداء الشهر بالحساب ، وانتهاءه بالحساب{[184]} .
وإن الأخذ بالحساب الدقيق قد يكون ممكنا ، وخصوصا أن الإرصاد يكون رؤية بآلة فهل يؤخذ بها ؟ يقول الله تعالى:{ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم 39 لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون 40} [ يس] .
وإن التقدير بالمنازل كان ممكنا عند العرب والأعراب ، حتى إنهم كانوا يعرفون اليوم من الشهر بمعرفة منزلة الهلال ليعرفوا اليوم الأول من رؤيته في ليلة ، واليوم الثاني بما كان من تغيير ، وهكذا حتى يصير بدرا ، ثم اليوم السادس عشر من التغير إلى آخره . ونقول في هذه القضية:بعد أن كانت الأرصاد ، وهي تخترق الغمة فيرى الهلال من ورائها ، يجوز الاعتماد عليها عند الغمة ، وتكون هذه رؤية ، ويكون الصوم لرؤيته والإفطار لرؤيته ، ويكون العمل بالحديث قائما . ويكون الحديث بظاهره منطبقا على من ليس عندهم أرصاد ، فإنه يؤخذ بالنظر المجرد إذا لا سبيل إلى الرؤية إلا بالنظر الطبيعي وعلى ذلك قرر مجمع العلماء في القاهرة ، وأقره المؤتمر الإسلامي العام أنه يؤخذ بالحساب العلمي إذ غمت الشمس ولم تمكن الرؤية .
الأمر الثاني الذي يثار وقد أثير في القديم وهو أن مطالع القمر مختلفة في البلاد شرقا وغربا ، فقد يرى الهلال في المشرق ، قبل أن يرى في المغرب ، فهل يصوم كل على مطلعه ، أم الأساس هو أول رؤية ، فيصوم أهل الغرب مثلا على رؤية أهل الشرق الهلال على أساس أول رؤية ، ولا اعتداد باختلاف المطالع ، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة ، ولا يفرق بينهما اختلاف الأقاليم ليكون ابتداء الصوم واحدا ، وانتهاؤه واحدا فلا يصوم إقليم ويفطر آخر في يوم واحد ؟ .
قال الشافعي الرأي الأول ، وقال الجمهور الرأي الثاني ، أي إن الاعتداد بأول رؤية ، وروي عن ابن عباس ، وقد كان بمكة فرأى أهل الشام الهلال ليلة الجمعة فصاموا يومها ، ورأى أهل الحجاز الهلال ليلة السبت فلم يصوموا السبت ، وقال:هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم{[185]} .
ففهم الشافعي من هذا أن اختلاف المطالع يعتبر ، بحيث لا يكلف أهل مطلع ، إلا على مقتضى مطلعهم ، وإني أرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن العبرة بمطلع مكة ، أولا:لأنه كان بمكة ولم يعتبر برؤية الشام وثانيا:لأن مكة قبلة المسلمين يتوحدون عندها ، فيكونون كالدائرة حولها ، وثالثا:إن هلال ذي الحجة لا يعد إلا بهلالها ، ويوم عرفة وأيام التشريق وغيرها لا يعتد إلا بها ، ولأنها مجتمع الوحدة في الصلاة والحج فتكون مجتمع الوحدة الإسلامية في الصوم .
هذا رأي رأيناه وعرضناه والله أعلم بالصواب .
وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة ، ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلفت تكليفا فيه مشقة فتحت باب الترخيص ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات ولذا قال تعالى:{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص ، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى ، الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:( يسروا ولا تعسروا ) وما خير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية ، وقال تعالى:{ وما جعل عليكم في الدين من حرج . . . 78} [ الحج] ولمقام التعليل في قوله تعالى:{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، عطف عليه تعليل آخر ، وهو قوله:{ ولتكملوا العدة} أي لتتموا عدة الشهر في يسر من غير إعنات ، وهنا فعل محذوف تقديره ، شرع لكم ذاك التيسير لكيلا يكون حرج وضيق في صومكم ، ولتكملوا العدة أي لتستطيعوا أداء العدد كاملا غير منقوص بالأداء لمن لا عذر له ، وبالأداء مع القضاء من أيام أخر لمن كان ذا رخصة تجيز الفطر وتوجب القضاء ، فتكون عدة الشهر قد كملت ، أداء وقضاء أو أداء فقط لمن له عذر .
{ ولتكبروا الله على ما هداكم} ، ولتتجهوا إلى الله مكبرين ضارعين إليه جل جلاله على هدايته لكم بأن وفقكم للإيمان بدل الكفر ، وبأن مكنكم من أداء الواجب كاملا .
و قالوا إن ذلك إيذان بالعيد ، وهو تكبير الله إذ إن التكبير يكون للفرح بالعيد ، وللصائم فرحتان يوم فطره ويوم لقاء ربه{[186]} ، وفرحته يوم فطره هي فرحته بأداء الواجب وسروره بالطاعة ، وفرحته يوم لقاء ربه هي فرحته بالنعيم المقيم ، وبالرضوان من الله تعالى وهو لدى الأبرار أكبر من النعيم كما قال تعالى:[ ورضوان من الله أكبر . . .] 72[ التوبة] .
و إن هذه النعم نعمة الإيمان ، ونعمة التيسير ، ونعمة أداء الواجب كاملا ونعمة الفرحة به يوم الفطر ، وتكبيره سبحانه وتعالى يقتضي الشكر ، ولذا قال تعالى:[ ولعلكم تشكرون] ولعل للرجاء وهو من الناس ، ومن ترتيب الأمور ، لا من الله تعالى أي لترجوا شكرا لله تعالى على هذه النعم المتوالية ، والله غفور رحيم .