الصيام مع بعض أحكامه:
وهذا تشريع عبادي جديد أراد اللّه لعباده أن يتعبّدوا له فيه ،من أجل أن يحقّقوا لأنفسهم البناء الروحي والعملي من خلال ذلك ،كما هو الحال في العبادات الأخرى التي لم يجعلها اللّه استغراقاً في ذاته أو غيبوبةً في قدسه ،ليبتعدوا بذلك عن حياتهم ،بل جعلها انطلاقة في وعي الإنسان لعلاقته بربه ،من حيث هي عبودية ومسؤولية وانفتاح ،لتؤكد له إنسانيته الصافية النقية البعيدة عن كلّ خبث وزيف ورياء ،وعن كلّ ضعف وحقد وانحراف ،والقريبة من المعاني الروحية التي تبني للإنسان حياته على الصورة التي يحبها اللّه ويرضاها ،فهي تلتقي بالحياة من خلال التقائه باللّه .
وفي هذا الإطار ،اعتبرت العبادات الإسلامية من ركائز الإسلام ،باعتبار علاقتها ببناء الشخصية الإسلامية للإنسان في ما يفكر ويعمل ويمارس من علاقات عامة وخاصة ،وفي ما يخطّط له من غايات ،وما يستخدم من وسائل ،وذلك من خلال تعدّد وتنوّع أساليبها وتنوّعها ،وفي ما تثيره من مشاعر ،وما تحرّكه من نوازع وأفكار .
وقد نلاحظ في روعة التشريع العبادي في الإسلام ،أنه حرّك العبادة في إطار العطاء ،فاعتبر العطاء عبادة ،وأطلقها في الحياة ،فقرر أنَّ العمل في سبيل طلب الحلال عبادة ،وأثارها في خطّ الدفاع عن الإنسان وقيمه الكبيرة في الحياة ،فالجهاد في سبيل اللّه عبادة يتعبّد فيها الإنسان لربّه ،وأفسح المجال للنية الخالصة في داخل الإنسان ،لتعطي كلّ عمل يقصد به الإنسان وجه ربّه في كلّ شأن من شؤون الحياة الذاتية والعامة ،صفة العبادة التي تقرّبه إلى اللّه .
وكان الصوم إحدى العبادات التي بُنِيَ عليها الإسلام حسب ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت ( ع ) ،فقد فرضه اللّه على المؤمنين في الإسلام ،كما فرضه على المؤمنين قبلهم في الشرائع السابقة ،فقد ورد في قاموس الكتاب المقدس: «الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان متداولاً في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب » .
ويظهر من التوراة أنَّ موسى ( ع ) صام أربعين يوماً ،فقد جاء فيها: «أقمت في الجبل أربعين ليلةً لا آكل خبزاً ولا أشرب ماءً .وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرّع إلى اللّه .واليهود كانوا يصومون غالباً حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام اللّه ،ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة ،وليحصلوا على رضى ضرة القدس الإلهي » .
«الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصاً بيوم من أيام السنة بين طائفة من اليهود .طبعاً كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أورشليم وغيرها » .
السيِّد المسيح ( ع ) صام أيضاً أربعين يوماً ،كما يظهر من الإنجيل «ثُمَّ صعد يسوع إلى البرية ...فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً » .
ويبدو من نصوص «إنجيل لوقا » أنَّ حواريي السيِّد المسيح صاموا أيضاً .
وجاء في قاموس الكتاب المقدس «من هنا كانت حياة الحواريين والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم » .
وقد لا نجد تفصيلات وافية عن طبيعة هذا الصوم المفروض على السابقين في شرائعهم ،ولكنَّنا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصمت في ما حدّثنا اللّه به من قصة زكريا قال:] قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ[ [ آل عمران:41] وفي ما حدّثنا به من قصة مريم ( ع ):] فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً[ [ مريم:26] .وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الديانات السابقة من اليهود والنصارى نوعاً من الصوم الذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات كاللحوم ونحوها في بعض أيام السنة .وقد يخيّل لبعض النّاس أنَّ تشبيه الصوم المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا يوحي بوحدة الصوم عندنا وعندهم ،ولكن ذلك غير ثابت ،لأنَّ التشبيه يكفي فيه أن يكون وارداً لبيان أصل التشريع من دون دخول في تفاصيله .
الصوم والتقوى:
وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة:] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ[ إذ لا بُدَّ لكم من القيام به فرضاً واجباً ،كعبادة شرعية تتقرّبون بها إلى اللّه ،وتحقّقون فيها الكثير من المنافع الروحية والأخلاقية والجسدية ،] كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[،فلستم أوّل الأمم التي يفرض عليها هذا النوع من الإمساك العملي ،لأنَّ القضية ليست حالةً خاصةً في ظرف خاص يتصل بكم بشكل خاص ،بل هي حالة عامة في الإنسان كلّه من حيث علاقة الترك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته ،كما هي علاقة الفعل الخاص في الجوانب الأخرى منها ،وربما اختلف الصوم في طبيعته ومفرداته بين أمّة وأخرى ،ولكن المبدأ واحد .
وقد ختمت الآية بيان الصوم بقوله تعالى:] لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ للإيحاء بأنَّ التقوى هي غاية للصوم أو نتيجة له ،نظراً لما يثيره في داخل الإنسان من الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه ،انطلاقاً من وعيه التام للإشراف الإلهي عليه في كلّ صغيرة وكبيرة .
وهذا ما تعبّر عنه مفردة «التقوى » بما تمثّله من الانضباط أمام ما يريده اللّه منه وما لا يريده ،وذلك بأن لا يفقده اللّه حيث يريده ولا يجده حيث ينهاه .وبذلك يكون هذا الصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير ،وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشريف: «ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش ،وربّ قائم حظّه من قيامه السهر ..» ،فيمن لا يمنعه صومه من الممارسات المحرّمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره .