] فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ[ ربما تفسّر هذه الآية بما قبل موت الموصي ،وذلك في الحالة التي يتصرف الموصي تصرفاً جائراًوهو معنى الجنفأو منحرفاً عن خطّ الحقّوهو معنى الإثم الذي يوحي بتعمد الظلمفإنَّ للوصي أن يتدخل لإصلاح الأمر بين الموصي وبين الوالدين والأقربين ؛وذلك بإرجاعه عن الخطأ وإعادته إلى الحقّ ،لئلا يحصل الخصام والنزاع من جراء ذلك ،كما نشاهده في بعض الأوضاع الخاصة ،عندما يحاول الموصي أن يحرم بعضاً ويعطي بعضاً كنتيجة لبعض الدوافع الذاتية .
وربما تُفسر بما بعد الموت ،وذلك على أساس الاستثناء من حرمة التبديل ،فإنَّ للوصي أن يبدل الوصية من حالة الباطل إلى حالة الحقّ ،لأنَّ الإثم هو في تغيير الوصية المنسجمة مع خطّ الحقّ ،لا المنحرفة عنه .
كما إذا كانت الوصية بما يزيد على الثلث للورثة ،فللوصي إرجاعه إلى الثلث إذا رفض الورثة ذلك ،أو إذا أوصى بتوزيع جميع ثروته على غير الورثة الشرعيين ،فلا بُدَّ من ردّها إلى الثلث ،وإذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم كإعانة مراكز الفساد أو فعل حرام أو ترك واجب ،أو إذا أدّت الوصية إلى نزاع أو فساد يوجب إزهاق الأرواح ،فللوصي أن يتدخل لمنع ذلك بنفسه أو بالاستعانة بالحاكم الشرعي .
وربما يوحي سياق الآية بالتفسير الثاني ،لأنها وقعت بعد الآية الأخرى التي تتحدّث عن التبديل بعد الموت ،باعتبار أنَّ التصرّف من صلاحية الوصي .أمّا حالة ما قبل الموت ،فلا يملك الوصي أيّة صلاحية فيها .
ولكن دراسة الآية بدقة توحي بالمعنى الأول ،لأنها واردة في تخطيط خطّ الوصية في ما هو تكليف الموصي في ما ينبغي أن يوصي به مما لا يتناسب مع خطّ الجور أو الظلم ،فإذا انطلق في هذا الاتجاه الذي يثير الخصومة والنزاع ،فإنَّ للوصيباعتبار علاقته الأكيدة بالموضوع لأنها مهمته في المستقبلأن يتدخل للإصلاح من موقع الإصلاح ،لا من موقع السلطة ليُقالكما سبقإنه لا يملك صلاحية في الموضوع .وهذا التفسير هو المروي عن الإمامين الباقر والصادق ( ع ) في ما ذكره صاحب مجمع البيان[ 5] ..
وقد جاء في كلمة الإمام عليّ ( ع ) ،في نهج البلاغة: «يابن آدم كن وصي نفسك واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك »[ 6] .
إنها توحي بأنَّ الإنسان قد يفكر بالخير في وصيته بماله بعد الوفاة ،سواء أكان ذلك في ما يتعلّق بقضاياه الخاصة في عباداته أو معاملاته أو صدقاته ،أم في ما يتعلّق بالآخرين ،وهذا عملٌ جيّدٌ يدلُّ على روح الخير في نفسه .ولكن هناك مسألةً مهمّةً في عمق القيمة الروحية الأخلاقية في النظرة الواقعية إلى الأمور ،فإنه عندما كان يوصي بماله بعد الموت ،كان يودّع الحياة ويبتعد عن كلّ علاقة له بالمال ،مما لا يجعله يواجه تضحية كبرى بإنفاقه في الخير لنفسه أو للآخرين ؛ولكنَّه عندما ينفقه في الحياة مع امتداد الأمل بالبقاء ،فإنَّه يضحي به في الوقت الذي تكبر حاجته إليه ويعيش الارتباط به ؛الأمر الذي يؤكد عمق القيمة الإيمانية الروحية في الإخلاص للّه في عمله .
وقد ختم اللّه له الآية بقوله تعالى:] إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ للإيحاء بأنَّ رعاية اللّه له لهذا الوحي كانت بإيجاد المصلح الذي يردّ الوصية إلى الخطّ المستقيم في الصلاح والإصلاح ،من موقع المغفرة والرحمة اللّتين يمنحهما اللّه لعباده الصالحين إذا أذنبوا ،فكيف هو الحال إذا أصلحوا ولم يكن هناك ذنب !؟
الإيحاءات والدروس:
إننا نستوحي من مبدأ الوصية في هذه الآيات أموراً:
1إنَّ الإسلام يريد أن يركز على مسؤولية المسلم في الاهتمام بأمور الآخرينلا سيما أقربائهفيفكر بأمورهم في حالة الحياة وفي ما بعد الموت ،ويعمل على تحويل التفكير إلى ممارسة عملية حقيقية بما يوصي به إليهم من مال ليضمن لهم نوعاً من كرامة الحياة في ما بعد الموت .
2إنَّ في اعتبار هذا التوجه مظهراً من مظاهر التقوى دلالة على أنَّ قضية التقوى في الإسلام لا تتصل بالجانب الروحي العبادي فحسب ،بل تتسع لتواجه حسَّ المسؤولية في الإنسان تجاه أخيه الإنسان في الحياة وفي ما بعد الموت ،ما يؤكد على تنمية الجانب الإنساني للشعور في أعماق الإنسان .
3ربما نستوحي من فقرة] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[: أنَّ اللّه يريد للإنسان أن يستفيد من الفرصة الأخيرة في الحياة ليتقرّب إليه من خلال عمل الخير للنّاس الذين يحتاجون إليه ممن كانوا السبب في وجوده ،أو الذين يرتبطون به برابطة الرحم من خلال إيحاءات القرابة التي تفتح كلّ مشاعر الخير في نفس الإنسان في الأجواء الحميمة المنسابة في روحه ،الأمر الذي يجعله يفكر بطريقة موضوعية متوازنة بعيدة عن كلّ نوازع الطمع والجشع والذاتية ،لأنه سوف يفارق المال كلّه والحياة كلّها بعد قليل فيفقد كلّ شيء ،بينما توحي الوصية إليه الفرصة الإلهية في الحصول على العفو والمغفرة والرحمة في عمل الخير .
4إنَّ اللّه لم يعطِ الإنسان كلّ الحرية في الوصية ،بل حدّد له الثلث كحدٍّ أقصى ،حتى لا يجور على ورثته فيتركهم في فقر وحاجةٍ ،يسألون النّاس إذا تجاوز ذلك ،فخصَّ بعضهم بالمال كلّه أو أوصى به للمشاريع العامة أو لبعض النّاس الذين تربطه بهم علاقة خدمة أو إحسان أو نحو ذلك ،فللورثة أن يرفضوا الزيادة على الثلث ،فتبطل الوصية في الثلثين .وواضح ما في هذه النظرة من مراعاة كلا الطرفين: الموصي ،والموصى لهم .
فالإجازة للموصي بالتصرّف بثلث التركة يشبع لديه الحاجة إلى التصرّف في تركته في السياق الذي يلبي شعوره بالواجب وإحساسه بالمسؤولية ،فضلاً عن إشباع رغبته وأحلامه ؛فلا يحرملذلكمن التصرّف بماله في ما بعد الموت .وأمّا ترك الثلثين للموصى لهم فيندرج في سياق إعانتهم على تلبية حاجاتهم ومعالجة قضاياهم الخاصة .وقد جاء في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر ( ع ) أنه قال: «من عدل في وصيته كان بمنزلة من تصدّق بها في حياته ،ومن جار في وصيته لقي اللّه يوم القيامة وهو عنه معرض » .
وربما كان المراد بالجور هو الوصية بأكثر من الثلث ،أو بالمقدار الذي يخلق للورثة مشكلة في حياتهم لحاجتهم إلى المال الذي أوصى به .
5إنَّ الوصية ليست ملزمة لصاحبها ما دام في الحياة ،فله أن يرجع عنها أو يغيّرها بأيّ نحو كان ،فلا حقّ لأحد عليه في ذلك .
6إنَّ على الإنسان أن يوصي بكلّ الواجبات والمسؤوليات المترتبة عليه ،في حقوق النّاس عنده أو حقوق اللّه التي لا بُدَّ من قضائها ،إذا خاف على نفسه الموت وفوات الفرصة في الأداء والقضاء .أمّا في غير ذلك فالوصية مستحبة .