وإنه قد يكون الموصي ظالما ، أو ميالا لظلم ، أو يريد إثما لوصيته كمن يوصي في موضع ، أو يعين في وصيته على إثم فهل تنفذ هذه الوصية ، وهل يجوز تغييرها ؟ قال الله تعالى في ذلك:{ فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} .
الخوف يكون في الأمر المتوقع فيخاف أن يقع ، فتقول أخاف أن تفعل كذا ، إذا كنت تتوقع الفعل المخوف ، كما قال يعقوب:{ وأخاف أن يأكله الذئب . . . 13} [ يوسف] ، أو رأيت بوادره من قول أو فعل أو نحو ذلك ، والجنف الميل إلى ناحية الظلم ، وهو ضد الحنف فهو الميل إلى ناحية العدل فقوله تعالى:{ فمن خاف من موص جنفا أو إثما} معناه من خاف من موص ميلا إلى ظلم ، أو توجها خطأ إلى ظلم أو إثما مقصودا فأصلح بينهم أي بينه وبين ورثته وحمله على الاتجاه إلى العدل والخير ، أو قصد إثما بأن أوصى لبنيه دون بناته أو أراد أن يوصي في معصية ، أو في ناحية لا خير فيها ، فحملوه على اختيار ما لا معصية فيه ولا ظلم ، وله فضل الآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر وفضل الصلح والصلح خير ، وفضل منع الظلم ، ومنع الظلم خير لا شك فيه .
وإن مثل هذا عمل عام يجب القيام به على عامة المؤمنين ، وإن قام به البعض سقط الحرج عن الباقين ، وإنه يجب على والي الحسبة القيام بالإصلاح في هذه الوصايا التي تجنف لإثم والقاصدة الإثم .
وإذا كانت الوصية فيها جنف لإثم أو تعمد لإثم ، ومات الموصي مصرا عليها ، كأن يوصي لغير قرابته ، وهم أغنياء ، وفي قرابته فقراء فإنه إن حولت الوصية إلى فقراء ذوي قربا كان أولى لأنها عدلت إلى الخير .
وقد روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن معنى الآية من علم بعد موت الموصي جنفا أو تعمد إيذاء بعض فأصلح ما وقع من الإثم وما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم أي لا يكون إثم التبديل ، بل يكون له ثواب الإصلاح . وروى النسائي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ، وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب من ذلك وقال:( لقد هممت ألا أصلي عليه ) ، ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء ، ثم أقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة{[174]} ، وقد أخرج مسلم هذا الحديث .
وقد اشترط في نفاذ الوصية ألا يكون فيها مضارة ، فلقد قال تعالى:{ من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار . . . 12} [ النساء] وقرر مالك أن كل وصية فيها مضارة تكون باطلة .
هذا وقد اتفق الفقهاء على أن الوصية بمعصية تكون باطلة ، وكذلك الوصايا التي تكون الباعث عليها معصية من المعاصي كأن يوصي لخليلته لتبقى معه على العشرة الحرام ، وإن تكلموا في مدى قوة الباعث .
وفي الجملة أن الآية الكريمة تدل على أنه لا إثم على من بدل وصية آثمة فحولها إلى الخير ، أو أبطلها إن لم يمكن تحويلها ، وإن ذلك يكون للقضاء أو لوالي الحسبة .
ولأن التبديل لا يكون في دائرة الإثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ إن الله غفور رحيم} أي إن الله تعالى بالغ الغفر ، غفار للموصي أن هم وعدل ، وغفار لمن أصلح ونجح ، ولا يأثم من غير بعد الوفاة ، وحولها من جنف إلى عدل ، وأن الله يرحم الموصي ويرجى ألا يؤاخذه ما دام لم يتم ما أقدم عليه ، وقد أكد سبحانه الغفران والرحمة بصيغة الغفور الرحيم ، وبأن المؤكدة ، وبالجملة الاسمية . اللهم اجعلنا ندخل في غفرانك ، ونحن في رحمتك .