أحكام الجهاد{[196]}
ذكر الله تعالى في آية البر أن من أعلى أوصاف أهل البر ، [ و الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . . .177]( البقرة ) ، والجهاد هو البأس الذي يوجب الصبرولذا قال تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( 190 )
قوله تعالى:[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين] .فيه ثلاث مسائل:
الأولى:قوله تعالى:[ و قاتلوا]هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله:[ ادفع بالتي هي أحسن . . .96] ( المؤمنون ) ، وقوله:[ فاعف عنهم واصفح . . .13]( المائدة ) ، وقوله [ واهجرهم هجرا جميلا 10]( المزمل ) ، وقوله:[ لست عليهم بمسيطر22]( الغاشية ) ، وما كان مثله مما نزل بمكة . فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل:[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم] قاله الربيع بن أنس وغيره . وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال [ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا . . .39]( الحج ) . والأول أظهر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن يقاتل من المشركين . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة ، فلما نزل الحديبية بقرب مكة –و الحديبية اسم بئر ، فسمى ذلك الموضع باسم تلك البئر – فصده المشركون عن البيت ، وأقام بالحديبية شهرا ، فصالحوه على أن يرجع من عامه ذلك كما جاء ، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال عشر سنين ورجع إلى المدينة ، فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام ، فنزلت هذه الآية ، أي يحل لكم القتال لمن قاتلوكم من الكفار . فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهرها ، فكان صلى الله عليه وسلم قاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزل:[ فاقتلوا المشركين . . .5]( التوبة ) فنسخت هذه الآية ، قاله جماعة من العلماء . وقال ابن زيد والربيع:نسخها [ و قاتلوا المشركين كافة . . .36] ( التوبة ) فأمر بالقتال لجميع الكفار . وقال ابن عباس وعمر بن عبد ا لعزيز ومجاهد:هي محكمة ، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وما شابههم على ما يأتي بيانه . قال أبو جعفر النحاس:وهذا أصح القوانين في السنة والنظر ، فأما السنة فحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان . رواه الأئمة{[197]} . وأما النظر فإن "فاعل"لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون . وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية . أخرجه مالك وغيره . وللعلماء فيهم صور ست:
1- النساء إن قاتلن قتلن ، قال سحنون:في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله:[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم]و [ اقتلوهم حيث ثقفتموهم] . وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال .
2- الصبيان فلا يقتلون ، للنهي الثابت عن قتل الذرية ، ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل قتل .
3- الرهبان لا يقتلون ولايسترقون ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموال ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر ليزيد:وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ، فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا . ولو ترهبت المرأة ، فروى أشهب أنها لا تهاج – أي لا تزعج ولا تنفر – وقال سحنون:لا يغير الترهب حكمها . قال القاضي أبو بكر بن العربي:"والصحيح عندي رواية أشهب ، لأنها داخلة تحت قوله:"فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ".
4- الزمني{[198]} ، قال سحنون:يقتلون . وقال ابن حبيب ، لا يقتلون .و الصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة .
5- الشيوخ ، قال مالك في كتاب محمد:لا يقتلون . والذي عليه جمهور الفقهاء:إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل ، وبه قال مالك وأبو حنيفة . وللشافعي قولان:أحدهما – مثل قول الجماعة . والثاني – يقتل هو والراهب . والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد ، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع . وأيضا أنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة . فأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال ، فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيرا بين خمسة أشياء:القتل أو المن أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية .
6- العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، فقال مالك في كتاب محمد:لا يقتلون ، وقال الشافعي:يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية . والأول أصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رباح بن الربيع:"الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسفا "{[199]}و قال عمر بن الخطاب:اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب . وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرثا ، ذكره ابن المنذر .
الثانية:روى أشهب عن مالكأن المراد بقوله:[ و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم] أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم . والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ، أمر كل واحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه . ألا تراه كيف بينها في سورة "براءة"بقوله:[ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار . . .123] ( التوبة ) وذلك أن المقصود أولا كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة ، ممتد إلى غاية هي قوله صلى الله عليه وسلم:"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم "{[200]} وقيل:غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ، لأن نزوله من أشراط الساعة .
و قوله تعالى:[ و لا تعتدوا]قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة . فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة ، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة . ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب . وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق . وقال قوم:المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم . يعني دينا وإظهارا للكلمة . وقيل:لا تعتدوا ، أي لا تقاتلوا من لم يقاتل . فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم .