[ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ( 229 )] .
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة شرعية الطلاق ، ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية ، وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الحد الذي ينتهي فيه ما للرجل من حق المراجعة ، فيبين سبحانه وتعالى أن الرجل ليس حرا يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ثم يراجع لغير حد محدود ، ولقد قيل إن الرجل في الجاهلية كان يطلق ويراجع لغير عدد ولا حد فتضطرب حياة المرأة ، وقد يتخذ ذلك للكيد والأذى ، لا للعشرة الحسنة ، والرغبة في البقاء ، ولقد روي أن رجلا قال لامرأته:والله لا آويك ولا أفارقك ! قالت:وكيف ذلك ؟ قال:أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل [ الطلاق مرتان] .
و سواء صح هذا سببا لنزول الآية أم أن الآية مقترنة بالآية قبلها متممة لموضوعها مقيدة لإطلاقها ، فقد ذكرت الأولى أن المطلق أحق بامرأته ما دامت العدة قائمة ، ثم بينت هذه وهي الثانية أن ذلك ليس على إطلاقه إنما هو مقيد بالطلقتين الأولى والثانية ، أما الثالثة فقد ذكر من بعد حكمها ، وهو أنها لا تحل له حتى تتزوج زوجا غيره .
[ الطلاق مرتان] كلمة الطلاق في هذه الجملة السامية ، ذكر الزمخشري أن المراد بها التطليق ، كالسلام بمعنى التسليم ، أي أن التطليق الشرعي الذي يقره الشرع ويسوغه هو الطلاق الذي يكون على التفريق ، واحدة بعد واحدة ، ومرة بعد مرة ، وليس التطليق الذي يكون بالإرسال مرة واحدة ، وعلى هذا التخريج الذي ساقه الزمخشري يكون مساق الآية لتقرير أن الطلاق الشرعي لا يكون دفعة واحدة ، بل يكون مرة بعد مرة ، وتكون التثنية في هذه الحال لبيان التكرار لا للعدد ، كقوله تعالى:[ ثم ارجع البصر كرتين . . .4]( الملك ) وكقول:( لبيك اللهم لبيك ) ويكون قوله تعالى من بعد:[ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان] لبيان الغرض من التكرار وهو أن يكون بعد كل طلاق فرصة مراجعة نفسه ليمسك زوجه ويبقيها معاملا لها بالمعروف لدى أهل العقول المستقيمة الذي لا ينكره عقل ولا شرع ، أو يصر على طلاقها ، وإخراجها .
و إن ذلك التخريج يستقيم في ذاته ، ولكن قرن بالآية الكريمة بعد ذلك قوله تعالى:[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . . .230] ( البقرة ) فدل هذا على أن المراد حقيقة التثنية ، لأن بعد الثانية الثالثة .
و لذلك نختار التخريج الثاني ، وهو أن الطلاق في قوله تعالى:[ الطلاق مرتان] ال فيه للعهد الذكري ، أي الطلاق المشار إليه في قوله تعالى:[ و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . . .228]( البقرة ) فالطلاق المذكور هو الذي يكون فيه للزوج حق مراجعة زوجته فيه ، فالسياق يكون لبيان الطلاق الذي تبقى معه عصمته الزوجية ، ولذلك قال بعد ذلك:[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . . .230]( البقرة ) فهو ذكر حكم المرتين ، ثم ذكر من بعد ذلك حكم الثالثة ، وتكون التثنية على هذا التخريج المستقيم من كل الوجوه على حقيقتها لا لمجرد التكرار .
و مهما يكن السياق ، فإن قوله تعالى:[ الطلاق مرتان] ، يستفاد منه أن الطلاق لا يقع العدد به مرسلا دفعة بل هو دفعات ومرات ، وكل واحدة منها يتخللها رجعة أو عقد جديد ، وذلك ليتحقق المقصد الحكيم الذي قصد إليه الشارع من عدد الطلاق ، وإعطاء فرصة المراجعة بعد كل طلاق نحو ثلاثة أشهر ، ثم تكرار تلك الفرصة ، حتى إذا كانت الثالثة فصم ذلك العقد الذي أصبح بقاؤه شرا ، [ و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . . . 130]( النساء ) ، وأصبح من الضروري أن يكون ثمة تجربة قاسية ، عساها تصلح من قلب الناشز منهما .
و ذلك ما فهمه السلف الصالح ، فما كان الطلاق يقع دفعة واحدة ، بل كان يقع دفعات ، لكيلا لا يقطع الرجل السبيل على نفسه ، ولكيلا يتعدى حدود الله ، وكما قال الله تعالى في هذا المقام:[ و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا 1]( الطلاق ) ، فلعل الله في مدة العدة أو بعدها إذا طلق واحدة ، أو اثنتين على دفعتين ، أن يحدث أمرا بإحلال المودة محل العداوة ، والرحمة محل البغضاء ، فتستأنف حياة زوجية هنيئة سعيدة .
و إذا أوقع الرجل الطلاق دفعة واحدة ، ولم يوقعه على ثلاث مرات ، أو أوقعه في مجلس واحد متتابعا ، أو أوقعه في مجالس متفرقة ، فما حكمه ، وما مؤداه ؟
لاشك أن صريح الآية أن الطلاق لا يقع مرة واحدة ، فلا يقع الطلاق الثالث بلفظ الثلاث ثلاثا ، ولكن يقع طلقة واحدة لأنه مرة واحدة ، وليس ثلاث مرات ، ولكي يكون ثلاثا يجب أن يكون ثلاث مرات .
وذلك لأن اقتران الطلاق بكلمة ثلاث لا يجعله ثلاث مرات ، بل إنه مرة واحدة ، ولو وصفه بالمائة ، كمن يقول أحلف بالله ثلاثا ، فهو يمين واحدة ، وكمن يقول قرأت هذه السورة ثلاث مرات ، وقد قرأها مرة واحدة ، فهو كاذب .
إن كلمة المرة توجب أن يكون الطلاق في حال واحدة ، ولسبب واحد ، وفي مجلس واحد ، ولغاية واحدة ، مرة واحدة ولا يخرجه عن كونه مرة واحدة ، تعدد الألفاظ في المجلس ، أو لأجل السبب ، أو لهذه الغاية ، ولهذا قرر كثيرون من العلماء منهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وطائفة من شيوخ قرطبة ، منهم ابن زنباغ ، ومحمد بن بقي ، ومحمد بن عبد السلام ، وإصبغ بن الحباب ، أنه يقع واحدة ، وكل أولئك قد اختاروا رأي ابن عباس .
و قد روي عن بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود والزبير بن العوام وعبد الرحمان بن عوف ، وقاله من بعدهم بعض التابعين ، ثم تتابع بعض العلماء يقولونه .
و قد روى طاووس عن ابن عباس أنه قال:كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر رضي الله عنه:( إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ) فأمضاه .
هذا تفسير قوله تعالى:[ الطلاق مرتان] ، وهذا ما فهمه منه بعض العلماء تابعين لبعض الصحابة والتابعين ، ولكن الأئمة الأربعة يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يكون ثلاثا أو اثنين على حسب ما اقترن به ، وقد قال العلماء إنه قد اتفق عليه أئمة الفتوى ، وكأن غيره من الأقوال من شواذ الفتيا الذي لا يلتفت إليه وقد استندوا إلى الأخذ بفتوى عمر ، وادعوا أن الإجماع قد انعقد عليه ، ومن المؤكد أن طائفة كبيرة من الصحابة كانت على ذلك الرأي ، وما كان لمثلهم أن يقولوا ما يخالف ظاهر القرآن من غير سند من حديث صح عندهم ، والآية الكريمة تبين ما ينبغي ، ولا تبين بطلان سواه ، وأنه لا يقع إلا ذلك النوع من الطلاق{[313]} .
[ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان] الإمساك بالمعروف هو العشرة الحسنة ، والمعاملة الرفيقة بأهله ، فالمعروف هو الخلق الفاضل الذي تعرفه العقول السليمة ، وتدركه الفطر المستقيمة ، وتعالج به النفوس ، وتطمئن به القلوب . والتسريح إرسال الشيء وتفريقه ، ولذلك يقال سرح الشعر ، أي فصله وفرقه ليخلص بعضه من بعضه ، ويقال سرح الماشية ، أرسلها وفرقها في المرعى .
و لاشك أن لفظ التسريح بإحسان يتضمن مع ما يشتمل من معنى التفريق والإرسال ، معنى الرفق في التفريق ، فلا يفرق بعنف ،و جرح للنفوس ، وخدش للمروءة ، ولمكارم الأخلاق ، بل يفرق في رفق وعطف ، من غير حرمان ، بل بإعطاء من غير منع ، كما قال تعالى في هذا المقام:[ و لا تنسوا الفضل بينكم . . .237] ( البقرة ) فالإحسان في هذا المقام ، بمعنى الرفق والعطف والتسامح المادي والمعنوي ، فهو من أحسن إليه ، بمعنى أسدى إليه خيرا ، أو أدى معروفا ، أو أعطى إعطاء .
و وقت الإمساك أو التسريح في هذا المقام ، مقام ذكر الطلاق ومراته ، هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية ،أي أنه بعد إحدى هاتين الطلقتين ، إما إمساك بمعروف ، بمعنى رجعة على نية البقاء والإصلاح ، واطراح أسباب النزاع والخلاف ، والأخذ بالرفق والحسنى ، والعيشة الهنيئة الكريمة ، وإما تسريح بإحسان ، بمعنى تركها حتى تنتهي عدتها ، ويغني الله كل واحد عن الآخر من سعته .
فكأن هذه الجملة السامية تشير إلى ما ينبغي أن يكون في فترة الروية والتفكير ، وهي الأجل المفروض الذي تتربصه المرأة بعد طلاقها ، بأن يفكر في ماضي أمره ، ويقدر عاقبة حاله إن أمضى الطلاق ، فإن رأى أن الحسنى في الإبقاء أبقاها على نية الإصلاح من شأنه ، والتقويم من معوجه ، والأخذ بالرفق ، وإن رأى أن الخير في التفريق فرق غير مجاف ولا مشاق ولا مضار ، كما قال تعالى:[ و سرحوهن سراحا جميلا 49] ( الأحزاب ) .
و على هذا يكون الإمساك بمعروف والتسريح بالإحسان موضعه في هذا المقام هو في وقت النظر والتروية ، وإن كان الإمساك بالمعروف مطلوبا دائما .
و لقد قال بعض العلماء:إن المراد من التسريح بالإحسان هو الطلقة الثالثة ، أي بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة .
و عندي أن ذلك التخريج بعيد لوجهين:
أولهما:أن التسريح يكفي فيه بعد الطلقتين أن يسكت من غير مراجعة حتى تنتهي عدتها ، ولأن التردد بين الإمساك بالمعروف ، والتسريح بالإحسان لا يكون إلا في وقت يجوز فيه الأمران ، والأنسب في ذلك ما بعد الطلاق ، وهو المراجعة أو تركها ، وليس المناسب في ذلك هو إرداف الطلاق بالطلاق ، إن ذلك لا يكون فيه تسريح بإحسان ، بل فيه تضييق على نفسه وظلم لها ، إذ قطع السبيل ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . وفوق ذلك فيه مفاجأة ومبالغة فيها بإيقاع طلاق ثان من غير حاجة إليه .
ثانيهما:قوله تعالى بعد ذلك:[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . . . .230]( البقرة ) فإن هذه الطلقة الثالثة ، ولو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لكانت هذه رابعة ، ولم يقل ذلك أحد .
[ و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن يقيما حدود الله]إذا كان الفراق بين الزوجين يجب أن يكون مصحوبا بالإحسان والرفق ، وألا ينسوا الفضل بينهم ، فلا يصح أن يأخذ شيئا مما آتاها من مال ، لأن ذلك يكون مجافاة لا إحسانا ، ولأن ذلك يكون ظلما لا عدل فيه ، ولقد قال سبحانه وتعالى:[ و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا 20]( النساء ) .
و قال تعالى:[ و لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . . .19] ( النساء ) .
و إن أخذ شيء حرام بلا ريب عند الفرقة ، وإن الحرمة سببها ألا يجمع على المرأة أمرين كلاهما مؤذ لها ، أو لها الفراق الذي لا تريده ، وثانيهما استرداد ما وهب . وقد يقول قائل:إذا طابت نفسها بذلك فلماذا لا يأخذ ؟ فنقول إذا كان طيب نفسها من غير نشوز منها ، والبغض منه هو الذي رغب في الطلاق وأراده ، فإن ذلك مكارم أخلاق منها ، وفساد نفس منه ، ومثل ذلك لا يكون حلالا ، وليس من ذلك قوله تعالى:[ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا 4] ( النساء ) لأن هذه الآية موضوعها حال قيام الزوجية ، كما أنه ليس من قوله تعالى:[ و أن تعفوا أقرب للتقوى . . .237]( البقرة ) لأن تلك الآية موضوعها الطلاق قبل الدخول الذي يسقط نصف المهر ، فإنهما لم تقم بينهما عشرة زوجية ، فسوغ العفو منها إذا لم تكن قد قبضت شيئا ، أو قبضت دون نصف المهر ، وسوغ العفو منه إن كانت قد قبضت أكثر من النصف ، ولذلك لم يكن في ذلك أخذ لما أعطى عند عفوها ، بل إسقاط لما يجب ، وعساه أن يكون في عسرة ، وعسى أن يكون ذلك سبب الفراق ولم يكن منه أخذ ، ولكن كان منها إسقاط ، فلا ظلم ولا بهتان .
و لم يسوغ الشارع الحكيم الأخذ إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، ففي هذا الحال يحل الأخذ . وحدود الله سبحانه وتعالى ما أوجبه من حقوق الرجل على زوجته ، ولها عليه ، وهي مقاصد الزواج ، فإن لم يتحقق من الزواج مقاصده ، ولم تقم الأسرة الهنيئة التي تربط بين آحادها المودة الواصلة بين الزوجين فأخذ المال جائز .
و تلك الحال التي يخافان ألا يقيما حدود الله ، وواجباته ، وحقوق كل واحد منهما على صاحبه ، تتحقق بسببين:
أحدهما – أن تكون المرأة ناشزا عاصية أو كارهة ، كتلك المرأة التي ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول:"و الله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته ؟"– وهي المهر الذي أمهرها – قالت:نعم . فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد{[314]} ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بطريق الخلع ، ويقال إنه كان أول خلع في الإسلام .
و أحيانا تكون المرأة كارهة ولا تبدي بغضها بهذه الصراحة ، ولكنها تثير الشغب في البيت لأتفه سبب ، وتعصي زوجها ، وتقوم بالكفر في الإسلام ، ولا تتورع عنه ، وهذا ما كرهت امرأة ثابت بن قيس التي جاءت الرواية بأمرها .
ثانيهما – أن يكون بالمرأة عيب مستحكم ولا يمكن معه القيام بالحقوق الزوجية ، فإن أخذ المال في هذه الحال يكون سائغا ، وإن لم يكن نشوز ولا عصيان ، ولذلك سوغ الحنابلة والمالكية أن يطلب الرجل من القاضي التفريق على أن يأخذ ما أعطى أو بعض ما أعطى ، وإن لم يعتبر التفريق خلعا .
و إن هذين السببين كلا منهما يدل على أن أخذ المال جائز إذا كان سبب الفراق من جانبها ، أو سبب عدم القيام بحدود الله وتحقق العدالة من جانبها ، ولكن الآية الكريمة مطلقة لا تقيد في جواز الأخذ في كون النشوز من جانبها أو من جانبه ، بل يقول سبحانه في الاستثناء:[ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله] وذلك كما يكون عندما يكون النشوز من جانبها ، يكون عندما يكون من جانبه .
و إن ذلك العموم قد يبدو بادي الرأي ، ولكن المتأمل البصير في عبارات الجملة الكريمة يستنبط من إشاراتها أن جواز الأخذ مقصور على الحال التي يكون النشوز من جانبها أو سببه من جانبها ، أو على الأقل كان الجانب الأكبر منه يتصل بها ، وذلك لأنه عبر عن حال جواز الأخذ بألا يخافا ألا يقيما حدود الله ، وحال الخوف الذي يكون من جانبهما معا لا من جانبها وحدها تكون في الحال التي يكون السبب من جانبها ، وذلك لأنه مفروض أن الخوف الذي يكون هو الخوف الذي يكون سببه لا ظلم فيه ، وذلك في غالب الأحيان لا يتحقق إلا إذا كان السبب من جانب المرأة ، لأنه إن كان من جانب الرجل فهو ظلم ، إذ يملك أن يطلق ، ولا يقال إنه إذا خاف أن يظلم يجوز أن يأخذ المال ، لأن أخذ المال في ذاته ظلم إذا كان البغض من جانبه ، لأنه يكون داخلا في قوله تعالى:[ و لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . . .19]( النساء ) وخوف الظلم لا يبرر ظلما آخر ، وخصوصا إذا كان ثمة مندوحة عنه ، ويكون داخلا في قوله تعالى:[ و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا . . .231]( البقرة ) وفوق ذلك فإن النسق القرآني قد جعل للرجل حالين ، وهي حال الطلاق الذي لا يحل فيه الأخذ ، وحال جواز الأخذ ، وكلاهما لا يجوز إلا إذا تعذر قيام الحياة الزوجية على أسس الإصلاح والصلاح ، وقد جعل الطلاق إذا كانت النفرة من جانبه ، فكان السياق يوجب أن يكون الافتداء إذا كانت الفرقة من قبلها ، فهذه حال وتلك حال ، ولذا قال أهل البصرة من النحويين:إن الاستثناء في قوله تعالى:[ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله]استثناء منقطع بمعنى لكن ، لأن من بعد إلا غير داخل في عموم ما قبلها ، بل هو حال مغايرة له .
و أخيرا إن قوله تعالى عن إعطاء المال بأنها تفتدي نفسها ، أي تخلص نفسها بفداء تقدمه ، دليل على أن خوف عدم القيام بحدود الله هو من جانبها ، أو على الأقل هو من جانبها أظهر .
[ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به] الجناح معناه الإثم ، من جنح بمعنى مال . والافتداء معناه تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها ، ودفع الأذى عنها ، وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذله .
و الخطاب في الآية إما أن يكون لجماعة المؤمنين من حيث إنهم متعاونون فيما بينهم ، بحيث وجدوا الشر بين الزوجين ، وإما أن يكون خطابا لجماعة الأزواج الذين كان بينهم وبين نسائهم ما يخشى معه ألا يقيما كلاهما حدود الله التي رسمها للحياة الزوجية ، فالخطاب لإباحة الأخذ والفداء .
و عندي أن جعل الخطاب لجماعة المؤمنين أولى بالاعتبار ، فإن على من يعرف ما بين الزوجين أن يتدخل بالنصح والإرشاد وبيان حكم الله ، ولذلك كان الخطاب عاما لجماعة المؤمنين بقوله:[ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله] ونفى أخذ الإثم خاصا بالزوجين ، ولذا قال [ فلا جناح عليهما فيما افتدت به] ولقد فهم بعض العلماء من التابعين من كون الخطاب موجها إلى جماعة المؤمنين أن الخلع الذي هو التفريق بين الزوجين في نظير مال تفدي نفسها به ، ولا يكون إلا بأمر ولي الأمر أو القاضي الذي يقيمه ولي الأمر لذلك ، وقد فهم هذا الفهم الحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وكان يسير على ذلك الرأي زياد بن أبيه في حكمه ، وقد كان مقبول الولاية من عمر وعلي ، وكلاهما مكانته في الفقه مكانته .
و إن قصر الخلع على السلطان على هذا المذهب لا نحسبه صوابا ، ولكن نرى أن الأولى أن يقال:إن الخلع كما يجوز بتراضي الزوجين إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، كذلك يجوز بأمر القاضي إذا تبين له بعد تحكيم الحكمين أنهما لا يقيمان حدود الله بسبب نفرة المرأة من الحياة الزوجية ، وذلك ما نص عليه في مذهب مالك رضي الله عنه ، فقد جاء أن الأمر إذا فسد بين الزوجين ، ولم تعلم له أسباب ظاهرة حكم الحكمان ، فإن تبين أن العشرة بينهما غير ممكنة ، فرقا بينهما ، وجاز أن يكون التفريق خلعا إذا كانت الإساءة من جانب المرأة .
و من صريح الآية يتبين أن الخلع لا يكون إلا إذا خافا ألا يقيما حدود الله ، ومن سياق الآيات وتناسقها ، وإشارة الآية الكريمة وصريح الحديث النبوي يفهم أن الخلع يكون حيث تكون النفرة من جانب الزوجة ، ولذلك قال ابن رشد في بيان المقصد من شرعية الخلع:( الفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابل ما بيد الرجل من الطلاق ، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك{[315]}المرأة ، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل ) ولهذا قال الظاهرية إن الخلع لا يكون إلا إذا كان النشوز من جانبها ، لأنه إذا كان النشوز من جانبه يكون النهي عن أخذ المال لوقوعه في عموم قوله تعالى:[ و لا تمسكوهن ضرار لتعتدوا . . .231] ( البقرة ) وقرروا أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطى ، ولكن الحنفية والمالكية والشافعية سوغوا الخلع في كل الأحوال ، وبأي قدر من المال ، وإن كرهوا الخلع إذا كان النشوز من قبله ، وكرهوا أخذ أكثر مما أعطى .
هذا وللفقهاء خلاف طويل في شأن الخلع ، نتركه لكتب الفقه{[316]} .
[ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون] .
بعد بيان أحكام الطلاق وعدده وأحواله ، قال سبحانه [ تلك حدود الله] والإشارة إلى ما تقدم من الأحكام ، والإشارة للبعيد لبيان علو قدرها ، وعظم منزلتها ، وجلال ما فيها من مصالح ظاهرة بينة لذوي الألباب ، وسمى تلك الأحكام حدود الله للإشارة إلى أنها فاصلة بين الحق والباطل والظلم والعدل ، والمصلحة والمضرة ، وإضافتها إليه سبحانه وهو العليم الخبير البصير إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتطرق الريب إليها ، وأن من يخالفها يعاند الله ويحاربه ، ويتجنب الصالح ، ويتبع الطالح ، ويترك النافع إلى ما فيه الضرر في الدنيا والآخرة .
و إذا كانت تلك الأحكام حدودا فلا يصح تجاوزها وتركها ، وإلا كان معتديا على حرمات الله ، متهجما على شرع الله ، ولذا قال سبحانه:[ فلا تعتدوها] فالفاء هي فاء السببية التي تبين أن ما قبلها سبب لما بعدها ، أي أنه إذا كانت تلك الأحكام حدود الله [ فلا تعتدوها] فلا تتجاوزوها إلى الشقة الحرام ، وإلا كان الردى وسوء العقبى وفساد المال ، لأن تلك الحدود عدل الله القائم إلى يوم القيامة ، وهي عدله في الأسرة التي هي عماد المجتمع ، وبها قام بنيانه ، فإذا قامت على الظلم انهار المجتمع من دعائمه .
و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقضية عامة هي في عنق التاركين لأحكام الله إلى يوم القيامة ، فقال تعالى:[ و من يتعد حدود الله فألئك هم الظالمون] من يترك أحكام الله سبحانه وتعالى التي شرعها في قرآنه ، وبينها على لسان نبيه الكريم ، فإنه بسبب تركه لها ظالم لنفسه ، وظالم لجماعته ، وظالم في الحكم بين الناس .
و قد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم على من يترك شرع الله بالظلم ، فقد ربط بفاء السببية بين التعدي لحدود الله والحكم بالظلم ، وتكرار الربط بالسببية للتوكيد ، وعبر بالإشارة مع وجود ما يغني عنها لتأكيد معنى السببية ، أي أن السبب في ظلمهم تحملهم لتلك المخالفة والمعاندة لحدود الله ولله ، وأردف ذلك بقوله "هم"وهو للتأكيد ، ثم عبر بالجملة الاسمية للإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم ووصف ملازم لهم ما داموا تاركين لحدوده ، ثم كان القصر ، أي قصر الظلم عليهم ، وهو قصر حقيقي .
ولماذا كان ذلك التأكيد الشديد ؟ كان لسببين:
أولهما:أن الإنسان مغرور دائما ، ومحكوم نفسيا بأمور زمنية ، تسيطر عليه الأحوال التي تلابسه ، وقد يكون فيها الظلم والضرر ، ويتوهمهما العدل والمصلحة ،و يتوهم أن لا مصلحة في شرع الله ويحاول إخضاع حدود الله لزمانه ، أو يتركها ، كشأن الناس في الربا والطلاق وتعدد الزوجات والحدود وغير ذلك ، فبين الله سبحانه وتعالى أنهم ظالمون لأنفسهم إن تركوا شرع الله إلى أهوائهم ، بل يجب أن تكون أهواؤهم خاضعة لحكم الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"{[317]} .
ثانيهما:المقام الذي سيق فيه ذلك النص الكريم ، وهو ما يتعلق بالأسرة ، فإن الظلم فيها أقبح الظلم .
وفقنا الله سبحانه لأن ندرك شرع الله ، ونؤمن بأنه الحق الذي لا حق سواه ، وفيه المصلحة التي يقوم عليها بناء اجتماعي فاضل . والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .