هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته ، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال:الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
قال أبو داود ، رحمه الله ، في سننه:"باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث ":حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، حدثني علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية:وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك فقال:الطلاق مرتان الآية .
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن علي بن الحسين ، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رجلا قال لامرأته:لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا . قالت:وكيف ذلك ؟ قال:أطلقك ، حتى إذا دنا أجلك راجعتك . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل الله عز وجل:( الطلاق مرتان
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد ، وابن إدريس . ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، عن جعفر بن عون ، كلهم عن هشام ، عن أبيه . قال:كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ، ما دامت في العدة ، وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال:والله لا آويك ولا أفارقك . قالت:وكيف ذلك . قال:أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ، ثم أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل:( الطلاق مرتان قال:فاستقبل الناس الطلاق ، من كان طلق ومن لم يكن طلق .
وقد رواه أبو بكر بن مردويه ، من طريق محمد بن سليمان ، عن يعلى بن شبيب مولى الزبير عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم . ورواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن يعلى بن شبيب به . ثم رواه عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن هشام ، عن أبيه مرسلا . قال:هذا أصح . ورواه الحاكم في مستدركه ، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب ، عن يعلى بن شبيب به ، وقال صحيح الإسناد .
ثم قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت:لم يكن للطلاق وقت ، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال:والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مرارا ، فأنزل الله عز وجل فيه:( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة ، حتى تنكح زوجا غيره . وهكذا روي عن قتادة مرسلا . وذكره السدي ، وابن زيد ، وابن جرير كذلك ، واختار أن هذا تفسير هذه الآية .
وقوله:( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أي:إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية ، بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسنا إليها ، لا تظلمها من حقها شيئا ، ولا تضار بها .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال:إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق الله في الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [ بإحسان] فلا يظلمها من حقها شيئا .
وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، قال:سمعت أبا رزين يقول:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل:فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أين الثالثة ؟ قال:"التسريح بإحسان ".
ورواه عبد بن حميد في تفسيره ، ولفظه:أخبرنا يزيد بن أبي حكيم ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن سميع ، أن أبا رزين الأسدي يقول:قال رجل:يا رسول الله ، أرأيت قول الله:"الطلاق مرتان "، فأين الثالثة ؟ قال:"التسريح بإحسان الثالثة ".
ورواه الإمام أحمد أيضا . وهكذا رواه سعيد بن منصور ، عن خالد بن عبد الله ، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين ، به . وكذا رواه قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين به مرسلا . ورواه ابن مردويه [ أيضا] من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره . ثم قال:حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة ؟ قال:"إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ".
وقوله:( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله] أي:لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه ، كما قال تعالى:( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) [ النساء:19] فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها . فقد قال تعالى:( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ النساء:4] وأما إذا تشاقق الزوجان ، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ، ولا حرج عليها في بذلها ، ولا عليه في قبول ذلك منها ; ولهذا قال تعالى:( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به الآية .
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه ، فقد قال ابن جرير:
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية قالا جميعا:حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عمن حدثه ، عن ثوبان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ".
وهكذا رواه الترمذي ، عن بندار ، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به . وقال حسن:قال:ويروى ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان . ورواه بعضهم ، عن أيوب بهذا الإسناد . ولم يرفعه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال:وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ".
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير ، من حديث حماد بن زيد ، به .
طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس ، حرم الله عليها رائحة الجنة ". وقال:"المختلعات هن المنافقات ".
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعا ، عن أبي كريب ، عن مزاحم بن ذواد بن علبة ، عن أبيه ، عن ليث ، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب ، عن أبي زرعة ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المختلعات هن المنافقات ". ثم قال الترمذي:غريب من هذا الوجه ، وليس إسناده بالقوي .
حديث آخر:قال ابن جرير:حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن بشر ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات "غريب من هذا الوجه ضعيف .
حديث آخر:قال ابن ماجه:حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ، حدثنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى بن ثوبان ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ".
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن الحسن عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"المختلعات والمنتزعات هن المنافقات ".
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف:إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة ، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ، واحتجوا بقوله:( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا [ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله] . قالوا:فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة ، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل ، والأصل عدمه ، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس ، وطاوس ، وإبراهيم ، وعطاء ، [ والحسن] والجمهور ، حتى قال مالك والأوزاعي:لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها وجب رده إليها ، وكان الطلاق رجعيا . قال مالك:وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه . وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق ، وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى ، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة . وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستذكار "له ، عن بكر بن عبد الله المزني ، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله:( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) [ النساء:20] . ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله . وقد ذكر ابن جرير ، رحمه الله ، أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول . ولنذكر طرق حديثها ، واختلاف ألفاظه:
قال الإمام مالك في موطئه:عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية ، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من هذه ؟ "قالت:أنا حبيبة بنت سهل . فقال:"ما شأنك ؟ "فقالت:لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر ". فقالت حبيبة:يا رسول الله ، كل ما أعطاني عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذ منها ". فأخذ منها وجلست في أهلها .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بإسناده مثله . ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، عن مالك . والنسائي ، عن محمد بن مسلمة ، عن ابن القاسم ، عن مالك به .
حديث آخر:عن عائشة:قال أبو داود وابن جرير:حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو عمرو السدوسي ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة ، عن عائشة ، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، فضربها فكسر نغضها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال:"خذ بعض مالها وفارقها ". قال:ويصلح ذلك يا رسول الله ؟ قال:"نعم ". قال:فإني أصدقتها حديقتين ، فهما بيدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذهما وفارقها ". ففعل .
وهذا لفظ ابن جرير . وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام .
حديث آخر فيه:عن ابن عباس رضي الله عنه:
قال البخاري:حدثنا أزهر بن جميل ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت:يا رسول الله ، ما أعتب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته ؟ "قالت:نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ".
وكذا رواه النسائي ، عن أزهر بن جميل بإسناده ، مثله . ورواه البخاري أيضا ، عن إسحاق الواسطي ، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان ، عن خالد ، هو ابن مهران الحذاء ، عن عكرمة به ، نحوه .
وهكذا رواه البخاري أيضا من طرق ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، به . وفي بعضها أنها قالت:لا أطيقه ، تعني:بغضا . وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه .
ثم قال:حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن جميلة رضي الله عنها . كذا قال ، والمشهور أن اسمها حبيبة [ كما تقدم] .
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره:حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا أزهر بن مروان الرقاشي ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:والله ما أعتب على ثابت بن قيس بن شماس في دين ولا خلق ، ولكنني أكره الكفر بعد الإسلام ، لا أطيقه بغضا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تردين عليه حديقته ؟ "قالت:نعم ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد .
وهكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان ، بإسناده مثله سواء ، وهو إسناد جيد مستقيم . ورواه أيضا أبو القاسم البغوي ، عن عبيد الله القواريري ، عن عبد الأعلى ، مثله ، لكن قال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول:أنها كانت تحت ثابت بن قيس ، فنشزت عليه ، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا جميلة ، ما كرهت من ثابت ؟ "قالت:والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا ، إلا أني كرهت دمامته ! فقال لها:"أتردين الحديقة ؟ "قالت:نعم . فردت الحديقة ، وفرق بينهما .
قال ابن جرير أيضا:حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال:قرأت على فضيل ، عن أبي جرير أنه سأل عكرمة:هل كان للخلع أصل ؟ قال:كان ابن عباس يقول:إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي ، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت:يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا ، إني رفعت جانب الخباء ، فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا ، وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها . قال زوجها:يا رسول الله ، إني قد أعطيتها أفضل مالي ، حديقة لي ، فإن ردت علي حديقتي ؟ قال:"ما تقولين ؟ "قالت:نعم ، وإن شاء زدته . قال:ففرق بينهما .
حديث آخر:قال ابن ماجه:حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال:كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكان رجلا دميما ، فقالت:يا رسول الله ، والله لولا مخافة الله إذا دخل علي بصقت في وجهه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتردين عليه حديقته ؟ "قالت:نعم . فردت عليه حديقته . قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في أنه:هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك ، لعموم قوله تعالى:( فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن كثير مولى سمرة:أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ، ثم دعا بها فقال:كيف وجدت ؟ فقالت:ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي حبستني . فقال لزوجها:اخلعها ولو من قرطها ورواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن كثير مولى سمرة ، فذكر مثله ، وزاد:فحبسها فيه ثلاثة أيام .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن:أن امرأة أتت عمر بن الخطاب ، فشكت زوجها ، فأباتها في بيت الزبل . فلما أصبحت قال لها:كيف وجدت مكانك ؟ قالت:ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة . فقال:خذ ولو عقاصها .
وقال البخاري:وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل:أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت:كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب عني . قالت:فكانت مني زلة يوما ، فقلت له:أختلع منك بكل شيء أملكه ؟ قال:نعم . قالت:ففعلت . قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت:ما دون عقاص الرأس .
ومعنى هذا:أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها . وبه يقولابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ، وقبيصة بن ذؤيب ، والحسن بن صالح ، وعثمان البتي . وهذا مذهب مالك ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور ، واختاره ابن جرير .
وقال أصحاب أبي حنيفة ، رحمهم الله:إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ، ولا تجوز الزيادة عليه ، فإن ازداد جاز في القضاء:وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا ، فإن أخذ جاز في القضاء .
وقال الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، وإسحاق ابن راهويه:لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . وهذا قول سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعمرو بن شعيب ، والزهري ، وطاوس ، والحسن ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان ، والربيع بن أنس .
وقال معمر ، والحكم:كان علي يقول:لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها . وقال الأوزاعي:القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها .
قلت:ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قصة ثابت بن قيس:فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد ، وبما روى عبد بن حميد حيث قال:أخبرنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء:أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى فلا جناح عليهما فيما افتدت به أي:من الذي أعطاها ; لتقدم قوله:( ولا [ يحل لكم أن] تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به أي:من ذلك . وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس:"فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه "رواه ابن جرير ; ولهذا قال بعده:( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
فصل
قال الشافعي:اختلف أصحابنا في الخلع ، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ، يتزوجها إن شاء لأن الله تعالى يقول:( الطلاق مرتان قرأ إلى:( أن يتراجعا قال الشافعي:وأخبرنا سفيان ، عن عمرو [ بن دينار] عن عكرمة قال:كل شيء أجازه المال فليس بطلاق .
وروى غير الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس:أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال:رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ، أيتزوجها ؟ قال:نعم ، ليس الخلع بطلاق ، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك ، فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ:( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقرأ:( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق ، وإنما هو فسخ هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وابن عمر . وهو قول طاوس ، وعكرمة . وبه يقول أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري . وهو مذهب الشافعي في القديم ، وهو ظاهر الآية الكريمة .
والقول الثاني في الخلع:إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك . قال مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن جمهان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية:أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن خالد بن أسيد ، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ، فقال:تطليقة ; إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت . قال الشافعي:ولا أعرف جمهان . وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر ، والله أعلم .
وقد روي نحوه عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر . وبه يقول سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، وشريح ، والشعبي ، وإبراهيم ، وجابر بن زيد . وإليه ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، والشافعي في الجديد . غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة . وإن نوى ثلاثا فثلاث . وللشافعي قول آخر في الخلع ، وهو:أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق ، وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية .
مسألة:
وذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ، وهي المشهورة ; إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء ، إن كانت ممن تحيض . وروي ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن عمر . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعروة ، وسالم ، وأبو سلمة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن شهاب ، والحسن ، والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وأبو عياض ، وجلاس بن عمرو ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وأبو عبيد . قال الترمذي:وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم . ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق ، فتعتد كسائر المطلقات .
والقول الثاني:أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها . قال ابن أبي شيبة:حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها ، فأتى عمها عثمان ، رضي الله عنه ، فقال:تعتد حيضة . قال:وكان ابن عمر يقول:تعتد ثلاث حيض ، حتى قال هذا عثمان ، فكان ابن عمر يفتي به ويقول:عثمان خيرنا وأعلمنا .
وحدثنا عبدة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال:عدة المختلعة حيضة .
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال:عدتها حيضة . وبه يقول عكرمة ، وأبان بن عثمان ، وكل من تقدم ذكره ممن يقول:إن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا ، واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود ، والترمذي ، حيث قال كل واحد منهما:حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي ، حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس:أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة . ثم قال الترمذي:حسن غريب . وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة مرسلا .
حديث آخر:قال الترمذي:حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة ، عن سليمان بن يسار ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء:أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرها النبي أو أمرت أن تعتد بحيضة . قال الترمذي:الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة .
طريق أخرى:قال ابن ماجه:حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال:قلت لها:حدثيني حديثك . قالت:اختلعت من زوجي ، ثم جئت عثمان ، فسألت:ماذا علي من العدة ؟ قال:لا عدة عليك ، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة . قالت:وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية ، وكانت تحت ثابت بن قيس ، فاختلعت منه .
وقد روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن الربيع بنت معوذ قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة .
مسألة:
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ; لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء . وروي عن عبد الله بن أبي أوفى ، وماهان الحنفي ، وسعيد بن المسيب ، والزهري أنهم قالوا:إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها ، وهو اختيار أبي ثور ، رحمه الله . وقال سفيان الثوري:إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها . وإن كان سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة . وبه يقول داود بن علي الظاهري:واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة . وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك ، كما لا يجوز لغيره ، وهو قول شاذ مردود .
مسألة:
وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة ؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدهما:ليس له ذلك ; لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه . وبه يقول ابن عباس ، وابن الزبير ، وعكرمة ، وجابر بن زيد ، والحسن البصري ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو ثور .
والثاني:قال مالك:إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع ، وإن سكت بينهما لم يقع . قال ابن عبد البر:وهذا يشبه ما روي عن عثمان ، رضي الله عنه .
والثالث:أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح ، وطاوس ، وإبراهيم ، والزهري ، والحكم وحماد بن أبي سليمان . وروي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء قال ابن عبد البر:وليس ذلك بثابت عنهما .
وقوله:( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون أي:هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده ، فلا تتجاوزوها . كما ثبت في الحديث الصحيح:"إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم محارم فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان ، فلا تسألوا عنها ".
وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام ، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم ، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة ، لقوله:( الطلاق مرتان ثم قال:( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال:حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن محمود بن لبيد قال:أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ، ثم قال:"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! "حتى قام رجل فقال يا رسول الله ، ألا أقتله ؟ فيه انقطاع .