[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون( 230 )] .
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق ، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة ، حتى لا يضيق الرجل على نفسه ، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له ، ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا [ و من يتق الله يجعل له مخرجا 2]( الطلاق ) .و بين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية ، ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه ، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج ، أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية .
و في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه الطلاق الذي لا يمكن بعده استئناف الحياة بل تحرم عليه مؤقتا ، وهو الطلاق المكمل للثلاث ، فقال تعالى:
[ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره] أي أنه إن طلقها بعد الطلقتين اللتين سوغ الله سبحانه وتعالى له الرجعة بعد كل منهما في أثناء العدة ، أو عقد زواج بعد انتهائها ، إن طلقها بعد هاتين الطلقتين فلا تحل له من بعد طلاقه حتى تنكح زوجا غيره ، فمعنى "تنكح":تتزوج بعقد شرعي صحيح .
ففي هذه الجملة السامية بيان لانتهاء الحل بالطلاق الثالث ، وإثبات الحرمة ووقوعه ، كما أن فيها بيان انتهاء ذلك التحريم ، فهي قد حدت المبدأ والغاية ، فمبدأ التحريم من الطلقة الثالثة ، وينتهي التحريم بعد تزوج شخص آخر ، والدخول بها ، ثم تطليقها من بعد ذلك .
و النكاح المراد في الآية هو الزواج . وظاهر الآية أن الزواج ثم الطلاق من بعده يحلها للزوج الأول من غير حاجة إلى الدخول ، وبذلك أخذ سعيد بن المسيب ، ولكن جمهور الفقهاء والتابعين من قبلهم والصحابة أجمعين قد قرروا أنه لا بد من الدخول الحقيقيلكي تحل له ، وذلك لنص الحديث المخصص لظاهر الآية ، فقد ورد في البخاري ومسلم ، ومسند الإمام أحمد ، ومسند الشافعي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:إني كنت عند رفاعة ، فطلقني ، فبت طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمان بن الزبير ، وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"أتردين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك "{[318]} وواضح أن معنى ذوق العسيلة أن يفضى إليها ويدخل بها .
و قد تعددت روايات الحديث بهذا المعنى ، فكان حديثا مستفيضا مشهورا ، وهو يخصص عموم القرآن الكريم ، بل هو في الحق تفسير لظاهره ، وليس بعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لكتاب الله تفسير ، وعلى هذا انعقد الإجماع قبل سعيد بن المسيب ، وانعقد الإجماع بعده ، فقوله من شواذ الفتيا التي لا يلتفت إليها .
[ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله] أي فإن طلق الزوج الثاني ، فلا جناح على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا ، أي لا إثم عليهما في أن يستأنفا حياة زوجية جديدة ، فالضمير في "عليهما "يعود إلى المرأة والزوج الأول ، لأن العلاقة بينهما في مساق الآية الأول ، فقد بينت الآية التحريم بالطلقة الثالثة ، وأنه ينتهي الزواج من الثاني والتطليق منه ، ثم صرحت هذه الجملة السامية بابتداء الحل بعد انتهائه ، وهو أن يبتدئ بالطلاق من الثاني وزوال بقايا النكاح الثاني وآثاره بانتهاء العدة ، فهذه الجملة الكريمة توضيح لابتداء الحل ، كما كانت الأولى فيها بيان لابتداء التحريم وإشارة إلى انتهائه .
و على هذا سار أكثر المفسرين ، وكلامهم واضح بين ، ولكن اختار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه أن يكون الضمير في "عليهما "في قوله تعالى:[ فلا جناح عليهما أن يتراجع] يعود على الزواج الثاني والمرأة لا على الزواج الأول فهي كقوله تعالى:[ و بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا . . .228]( البقرة ) . فهي تدل على معنى جديد ، لم يتضمنه معنى الجملةالتي سبقتها ، وهو بيان أن الزواج الثاني يكون ككل أنواع الزواج ، وله كل أحكامها وحدودها ، فلا يكون زواجا مؤقتا ، ولا لغرض مؤقت ، إنما يعقد للبقاء والدوام ويقصد فيه معنى الزواج كاملا غير منقوص ، وقد يتوهم بعض الناس أن الزوج الأول أحق بها ، فدفع ذلك بأن المراجعة في العدة حق ثابت للمطلق الثاني ، وهو أولى بمقتضى الحكم العام الذي جاء به النص الذي نوهنا عنه ، وهو قوله تعالى:[ و بعولتهن أحق بردهن . . .228]( البقرة ) .
و قد يعترض معترض على ذلك الرأي فيقول:إنه لا يوجد على ذلك التخريج ما يفيد حلها للأول ، فنقول في رد ذلك الاعتراض:إن الحل بالزواج ثم الطلاق بعد التحريم وانتهاء العدة فهم من انتهاء التحريم بقوله تعالى:[ حتى تنكح زوجا غيره] فالتحريم مؤقت بتوقيت زمني غير معلوم ينتهي بالزواج الثاني ، وزوال سائر أسباب التحريم الأخرى .
و مهما يكن من الأمر ، فإن السياق يسير على مقتضى رأي الجمهور ، لأن السياق كله متعلق بشأن المرأة مع زوجها الأول ، والكلام في الزوج الثاني جاء ليتمم الكلام في الزواج الأول وإنهائه ، ومدى ذلك الإنهاء ، ويزكي ذلك أن الله سبحانه وتعالى عبر عن عودة الزواج بقوله:[ أن يتراجعا] وهذا يفيد أن ذلك بعقد جديد ، ولو كان المراد الرجعة ما عبر بصيغة المشاركة ، لأنه ينفرد بها الزوج إن كان الثاني .
و حلها للزوج الأول منوط بأمر ديني مقرر ثابت ، وهو أن يكونا قد انتفعا من ذلك الدرس القاسي ، وهو الفرقة المحرمة بينهما ، وتجربتها عشرة غيره ، وتجربته لرؤيتها عشيرة لسواه ، ولذلك قال سبحانه وتعالى في بيان إنهاء التحريم:[ إن ظنا أن يقيما حدود الله] فنفي الإثم في العودة إلى الزوج الأول مربوط دينيا وقلبيا بقصدهما إلى العشرة الحسنة وإرادتهما لها ، وظنهما القدرة عليها ، وزوال النفرة التي كانت توجب الشقاق والنزاع ، وتؤدي إلى الطلاق وتكراره المرة بعد الأخرى .
و قد فهم بعض العلماء أن المراد بالظن هنا هو العلم واليقين ، فالمراد إن تيقنا أنهما سيقيمان حدود الله ، فليس للرجل والمرأة ، وقد فرق بينهما تفريقا بمحرم بالطلاق الثلاث المتكرر ، أن يستأنفا حياة زوجية بعد زوال التحريم إلا إذا علما على وجه الحزم واليقين أنهما سيقيمان في هذا الزواج الجديد حدود الله بإعطاء كل واحد منهما ما للآخر من حقه ، ويقوم بما عليه من واجب ، لتكون المودة بينهما في ظل من الرحمان الرحيم .
هذا نظر بعض العلماء في تفسيرهم الظن باليقين ، ولكن الزمخشري لم يرتض ذلك النظر ، ولم ير أنه يتفق مع الذوق البياني لمن يذوق كتاب الله ، ذلك بأن إقامة حدود الله أمر يتعلق بالمستقبل ، والمستقبل مغيب مستور غير معلوم ، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة أن يجزم في أمر يتعلق بالمستقبل بأنه سيكون على ما ينبغي ويريد ، ولو كان يتعلق بقلبه وبنيته ، فالله سبحانه مقلب القلوب ، وهو وحده علام الغيوب ، بل إن أقصى ما يستطيعه الزوجان في مثل هذا المقام أن يعتزما العشرة الحسنة ، ويطرحا أسباب الخلاف التي كانت منها الفرقة الجافية ، والتي هي أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى ، وهما مع ذلك يظنان أن في قدرتهما تنفيذ ما أرادا ، واجتناب ما كان منهما قبل تلك التجربة الشديدة .
و إنه لواضح كل الوضوح من أن الرجل إذا طلق امرأته مرة بعد مرة ، حتى أتم الثلاث ، يكون هو وهي في حاجة إلى علاج ، إذ إن العشرة بينهما صارت غير صالحة للبقاء ، وأنهما إن يتفرقا نهائيا يغن الله كلا من سعته ، فهو وهي يسيران في خطين متقاطعين ، لا يلتقيان إلا يصطدمان ، فيطلقها ، ثم يراجعها أو يعقد عليها ، حتى إذا التقيا تنابذا للمرة الثانية وتدابرا ، فيطلقها ثم يراجعها أو يعقد عليها ، حتى إذا استأنفا حياتهما الزوجية تكررت منهما المأساة ، إن ذلك هو الكفر في الإسلام ، وإن ذلك هو الظلم الذي يجب اجتثاثه من أصله ، وذلك بمنعهما من استئناف الحياة الزوجية ، فقد أثبتت التجربة المريرة أن الزوجية بينهما غير صالحة للبقاء ، إما لعيب فيه أو لعيب فيها أو لعيب فيهما ، وذلك هو غالب الأحوال ، لأن أحدهما لو كان خالصا من العيوب التي تتعلق بالحياة الزوجية لصبر على الثاني ، ولأصلح بصبره حاله ، ولسارت السفينة في جو هادئ لا يؤدي إلى الفصم والقطع .
و بعد تلك الفرقة المحرمة قد يحدث أن تتزوج زوجا آخر ، وتعاشره معاشرة الأزواجعلى قصد أن تدوم العشرة بينهما ، ولكن بعد مدة طالت أو قصرت ينتهي هذا الزواج وتزول آثاره ، إما بموت الزوج وانتهاء عدة الوفاة ، أو بتطليقه وانتهاء عدة الطلاق ، فيبدو لزوجها الأول أن يستأنف حياة زوجية وتبادله هذه الرغبة ، عندئذ ينهي رب العالمين التحريم الذي أوجده الطلاق المكمل للثلاث ، لأنه عسى أن يكون الزمان والتجربة ، وعشرة غيره قد صقلت نفوسهما وأصلحت قلوبهما ، ولطفت من حدة النفور منهما .
و ترى من هذا أن الزواج الذي ينهي التحريم هو الزواج غير المؤقت الذي لا يقصد به مجرد التحليل الأول ، بل الزواج الدائم المستمر ، أو الذي يكون على نية الدوام والاستمرار ، لأن الشارع الكريم جعل نهاية التحريم هو هذا الزواج والدخول فيه ثم الطلاق ، لتكون تلك التجربة الشديدة المريرة ، ولتصقل النفوس الرعناء المتمردة ، فإذا لم يكن العقد زواجا قصد به البقاء والدوام ، ما كانت تلك التجربة ، وما كان ذلك الغرض المقصود من الشارع الحكيم .
و لكن الناس ضيقوا على أمرهم ما وسع الله ، ثم أخذوا يفكون ما قيدوا أنفسهم به ، فطلقوا لأدنى ملابسة ، وطلقوا الطلقات الثلاث إما في مجلس واحد أو بلفظ واحد ،أو في دفعات متقاربة ، وقطعوا على أنفسهم الطريق ولم يفهموا قول الله تعالى:[ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا 1] ( الطلاق ) ثم بعد أن سدوا طريق الحلال ، وأخذوا يتحايلون لفتحه بمفاتيح من الحرام ، فأوجدوا ما سمي في عرف الناس والفقهاء "زواج المحلل"أي الزواج الذي لا يقصد به عاقده العشرة الزوجية الدائمة ، إنما يقصد به مجرد إحلالها للأول ، فهو في الواقع يتحايل على الأحكام الشرعية ليهدمها ، لقد جعل الشارع نهاية التحريم أن تنكح زوجا آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به دوام العشرة ، ثم تجيء الفرقة عارضة لتكون تلك التجربة التي تهذب النفوس ، وتضبط الإرادة ، وتمنع الأهواء من الاندفاع ، ولكن يجيء الناس فيهدمون مقصد الشارع ويمنعون التهذيب الذي أراده ، فيكون ذلك العقد الذي ما قصد به الدوام ولا تتحقق به تجربة ، وإن كانت تسقط به المروءة ، وتنحرف النفس عن الجادة ، ويتحايلون على أوامر الله بذلك ليسقطوها ، ويخدعوا الله [ و ما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون 9]( البقرة ) .
و لقد ابتدأ ظهور ذلك النوع من الخداع الديني في صدر الإسلام ، ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في النهي ، وتضافرت بذلك الأخبار عنه وعن الصحابة ، وسماه استهزاء بكتاب الله ، ونقتبس من تلك الآثار النبوية قبسة تضيء للناس في عصرنا ، حتى لا يضلوا ، فيضيقوا على أنفسهم واسعا ، ثم يجتهدوا في فتح باب الإثم إذ ضيقوا الحلال ، ومن ذلك:
( أ ) - أنه روي عن ابن عباس أنه قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال صلى الله عليه وسلم:"لا ، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ، ولا مستهزئ بكتاب الله عز وجل لم يذق العسيلة "{[319]} .
( ب ) - وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا:بلى يا رسول الله ، قال:هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له "{[320]} .
( ج ) – وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا وموكله وكاتبه وشاهده ، والمحلل والمحلل له "{[321]} .
و هكذا تعددت الروايات والإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى .
و بهذا الهدي أخذ أصحابه رضي الله عنهم ، ولم يعرف مخالف بينهم في أن هذا النوع من العقود حرام ، ولذلك قال الفاروق رضي الله عنه:( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) فاعتبر عمل الأول زنى ، كذلك الثاني إن عقد بناء عليه ، ودخل بها يكون زانيا يستحق كلاهما عليه الرجم .
و قد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر يسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فيتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحللها لأخيه ، هل تحل له ؟ قال:"لا ، إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
و لقد روى البيهقي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما .
و هكذا استفاضت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بتحريم نكاح التحليل واعتباره خداعا للشرع . ولقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل طلق امرأته ثلاثا ثم ندم ، فقال:هو رجل عصى الله فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، فقيل له:فكيف ترى في رجل يحلها ؟ فقال:من يخادع الله يخدعه .
و لقد اتفق المسلمون على أن نكاح التحليل حرام إن قصد العاقد به التحليل ، لتضافر الأخبار بلعن النبي صلى الله عليه وسلم له ، ولأنه يخادع الشرع الشريف ، ويتحايل لإسقاط أحكامه ، ولأنه ما قصد بالعقد الزواج رغبة وبقاء ، بل قصد التحليل ، فهو عقد مؤقت ، وهو منهي عنه ، ولأن الباعث على العقد ليس أمرا أحله الشارع ، إنما هو نقيض أمره ، وكل أمر على خلاف أمر الشارع فهو رد على صاحبه ، والعبرة في الأمور الشرعية ببواعثها ونياتها ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "{[322]} فمن نوى أن يخدع الشرع بفعله فعليه إثم نيته ، ومن نوى بعقده ما أحله الله سبحانه وتعالى فله نيته .
ومع اتفاق فقهاء المسلمين على أن نكاح التحليل حرام لصريح النصوص ، إلا أنهم قد اختلفوا في بطلانه ، وفي تحليلها للمطلق الأول بمقتضى ذلك العقد ، ذلك أن بعض الفقهاء يرون أن النهي عن عقد لا يمنع صحته ، فالصحة والحل ليسا متلازمين تلازما لا يقبل الافتراق ، فالنهي عن البيع وقت الجمعة لا يقتضي بطلانه ، والنهي عن الزواج مع تأكد الظلم إن تزوج لا يمنع صحته إن تزوج مع هذه الحال ، وهكذا . .
و بتطبيق هذه النظرية عند أولئك الفقهاء على نكاح التحليل نراهم يقررون أنه حرام ، ولكنه إن وقع فهو صحيح ، ويترتب عليه حلها للأول مع إثم الاثنين أو الثلاثة .
و أما الذين قالوا إن النهي عن عقد يقتضي بطلانه ، فقد قرروا أن عقد التحليل إن ثبت أنه للتحليل فهو حرام ، وغير صحيح ، ولا يترتب عليه حل للأول .
و إنا نبين موضع الخلاف بإجمال ، فنقول:إن عقد التحليل له حالان:
إحداهما:ألا تظهر نية التحليل في أثناء العقد ، بل تختفي في أنفس الثلاثة:الزوج الثاني ، والأول ، والمرأة ، فلا ينطق واحد منهم في العقد بهذه النية ، ولكنها في أطواء نفوسهم جميعا ، وفي هذه الحال قال مالك وأحمد:إن العقد غير صحيح ، ولا تحل للأول ، لأن الأحكام بالنيات ، والبواعث والغايات تناط بها الأحكام ، وما كان النكاح نكاح رغبة ، بل هو نكاح دلسة كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو تحايل في شرع الله ، فلا يقر عليه المتحايل ، والله لا يقر أمرا جاء على خلاف ما أمر ، وهو داخل في عموم نهيه .
و قال أبو حنيفةوأصحابه:إنه في هذا الحال ينعقد العقد صحيحا مع تحقق الإثم ، ويترتب عليه حلها للأول بعد الدخول والطلاق وانتهاء العدة ، لأن الأحكام تناط بظواهر الألفاظ ، والنيات علمها عند الله ، وهو الذي يؤاخذ عليها .
و الشافعي قد أثر عنه قولان:أحدهما وهو القديم كمذهب مالك وأحمد ، وثانيهما وهو الجديد ، كمذهب أبي حنيفة وفقهاء العراق .
الحال الثاني:أن يصرح بالتحليل في العقد ، فيعقد العقد على شرطه ، وهذا قال فيه الشافعي:إنه كنكاح المتعة فهو باطل ، لأنه نكاح مؤقت ، ومالك وأحمد على أصلهما وهو بطلانه وعدم حلها للأول بمقتضاه ، والشافعي يوافقهما كما رأينا ، وإن كان الأساس مختلفا ، فالشافعي أبطله لأنه مؤقت كنكاح المتعة ، ومالك وأحمد أبطلاه لذلك ، ولأن الباعث عليه حرام ، وما كان باعثه حراما فهو حرام .
هذه أقوال الأئمة الثلاث ، وقد وافقهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة ، من حيث إنه عقد فاسد لا يحلها للأول ، وقال أبو حنيفة وزفر:يصح العقد ويحلها للأول ، لأن اشتراط إحلالها للأول شرط فاسد ، فهو يلغى ولا يكون لازما ، ويصح العقد ، ويحلها للأول بعد استيفاء شروط الحل .
و قال محمد من أصحاب أبي حنيفة:إن عقد الثاني صحيح مع هذا الشرط ، لأن الشرط يلغى ، ولكن هذا العقد لا يحلها للأول ، أما صحة العقد فلأن الشرط ملغى لا يلتفت إليه ، ولكن لأنه قد اشترط حلها للأول قد استعجل أمرا أخره الله تعالى ، وهو بذلك قد ارتكب محرما ، وكان مستعجلا أمرا قبل أوانه ، فلا يصل إلى غايته ، كمن قتل مورثه مستعجلا ميراثه فإنه لا يرث لأنه استعجل أمرا قبل أوانه فعوقب بحرمانه .
هذه خلاصة أقوال الفقهاء في نكاح المحلل ، وهو أقبح عقود الزواج ، وترى منها أن جميع الفقهاء يرون أنه حرام ، وأنه خداع لله سبحانه وتعالى ، وأنه تحايل على إبطال أحكام الله ، وتفويت لمقاصد الشارع الحكيم ، وأن جمهور الفقهاء يرون أنه عقد فاسد لا تحل به للأول ، وإذا كان ذلك شأن عقد المحلل فليتق الله الناس في أنفسهم وأخلاقهم ومروءتهم ، وليجنبوا أنفسهم ألفاظ الطلاق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولا يضيقوا على أنفسهم ما أفسح الله لهم ، وليحفظوا على أنفسهم أعراضهم ومروآتهم فلا يضطروا إلى ذلك العقد الذي هو إثم في إثم ، وجرم في رجم ، وتعريض الحرمات للانتهاك .
[ و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون] ذيل الله سبحانه وتعالى أحكام الطلاق وعدده ، وما يترتب عليه بهذه الجملة السامية ، ومعناها أن تلك الحقوق والواجبات التي بينها سبحانه وتعالى في الطلاق من أن الزوج أحق بزوجته بعد الأولى والثانية ، ومن أن النساء لا يسوغ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، ومن أن الطلاق ثلاث ، بعدها تحرم عليه حتى تتزوج زوجا آخر ، و من أنه لا يحل له أن يأخذ منها شيئا إلا أن يكون فداء لنفسها خشية نشوزها . كل هذه الأحكام ، هي الحدود التي أقامها سبحانه فارقا بين العدل والظلم ، والحق والباطل ، والخطأ والصواب ، وهي التي تقوم عليها معالم الأسرة الإسلامية ، ولقد بينها لقوم من شأنهم أن يعلموا أن الأمور على وجوهها ويدركوها على حقيقتها ، ومن لم يلتزمها فقد ضل ضلالا مبينا .
و إن ذلك التذييل الكريم يستفاد منه ثلاثة أمور:
أولها:بيان أن الأحكام الخاصة بالطلاق هي حدود حدها الشرع ، من يتجاوزها فقد تجاوز ماله إلى ما ليس له ، وترك الحلال إلى الحرام ، وترك الحق إلى الباطل ، وفي ذلك حث على الطاعة ، وتحريض على التزام ما أمر الله سبحانه وتعالى .
ثانيها:الإشارة إلى أن هذه الأحكام هي المصلحة الحق ، وأن الناس إن تجاوزوها فقد تركوا الخير إلى الشر والنفع إلى الضرر .
الأمر الثالث:حث الناس على تعرف حكم الشارع وغاياته ، فإن مقاصد الشارع لا يعرفها على وجهها إلا الذين من شأنهم أن يعلموا ، ويصلوا إلى لب الحقائق ، ومرامي الحكام الشرعية القاصية والدانية ، والله بكل شيء محيط .