ولقد يبلغ النفاق أن يغلب على نفوسهم ، فيظنون أنهم يخادعون الله ، ويحسبون أنه ليس عليما بخفايا نفوسهم ؛ ولذلك قال:{ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} الخدع:أن يظهر الشخص أنه يريد أمرا ليخفي إرادته الحقيقية ، ومقصده ، ومن ذلك ضب خادع إذا أخفى نفسه في جحره ، وقد أراد أن يضلل من يراقبه ، فأظهر الخروج من بابه ويختفي في غيره .
وكذلك حال أولئك المنافقين أرادوا أن يظهروا الإيمان أو أظهروه ، وهم يبطنون الكفر ، ولا يريدون غيره ، بل يريدون تضليل المؤمنين ، كحال ذلك الضب الخادع الذي يوهم مراقبه أنه خارج من ناحية ليختفي في ناحية أخرى ، فالنص الكريم تصوير لحالهم في فعلهم من إظهار الإيمان لأهل الإيمان ، وإبطانهم الكفر ، وتبادل كلماته فيما بينهم كما قال تعالى:{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ( 76 )} [ البقرة] وفي آية أخرى:{ وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( 14 )} [ البقرة] .
فالآية الكريمة وصف لحالهم{ يخادعون الله والذين آمنوا} فهي وصف لحالهم وما يرتكبون ، فعملهم عمل المخادع الذي يخادع الله والذين آمنوا بأن يوهمهم ويخادعهم فيظهر الإيمان ويبطن الكفر والعداوة وتربص الدوائر ، ويحسب أنه يخادع الله ورسوله والمؤمنين . والمخادعة مفاعلة بين اثنين كلاهما يريد خدع صاحبه ، والمفاعلة بين أولئك المنافقين من جانب والله ورسوله من جانب آخر ، وكيف يخادعون الله ، وهو علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ؟ وكيف يخادعهم الله تعالى وهم في قبضته ، وكل ما في السماوات والأرض في قبضته يوم القيامة ؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك فقرر أن الله تعالى يعاملهم معاملة المؤمنين ، فيتزوجون ، ويرثون ، ويعاملهم كأنهم المؤمنون الصادقون في الإيمان ، فهم يخادعون بإظهار ما لا يبطنون ، والله تعالى يعاملهم بما يظهرون ، ولا يعاملهم بما يبطنون ، أو يقال إن المعنى أنهم ينزلون بالمؤمنين ما يحسبونه مخادعة لهم ، وإيهامهم بأنهم آمنوا ، وما هم بمؤمنين ، أو يقال إن المخادعة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، وهم يعاملونهم معاملة المخادع لهم ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من لحن قولهم خفي أمرهم كما قال تعالى:{ ولتعرفنهم في لحن القول . . . ( 30 )} [ محمد] .
والمعنى في الجملة بعد أن خرجنا المخادعة تلك التخريجات المختلفة أنهم يظهرون ما لا يبطنون محاولين أن ينزلوا بالمؤمنين ما تكون كالمخادعة ، وقرر ذلك الراغب الأصفهاني في المفردات فذكر أن الخداع للرسول صلى الله عليه وسلم وأوليائه من المؤمنين ، وفي التعبير عن ذلك بخداع الله تعالى إشارة إلى أن الذين يخادعون النبي إنما يخادعون الله تعالى ، وأن الله تعالى كاشف أمرهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأنهم إذ يضارونه ، ويخفون عليه أمورهم ، يبطنون عنه سبحانه وتعالى ما لا يبدون وهو من ورائهم محيط .
وإنهم إذ يخادعون المؤمنين بإظهارهم الإيمان ، وإبطانهم الكفر ، إنما يخدعون أنفسهم ، بأن يظهروا لغيرهم الإيمان وأمرهم مكشوف غير مستور ، وحالهم معروف ، وكفرهم يبدو في لحن أقوالهم ، فهم يحسبون أنهم يخفون على غيرهم أمرهم ، وهو معروف لغيرهم ، فهم المخدوعون أنفسهم ؛ ولذلك قال تعالى:{ وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} ، أي أنهم يحاولون أن يخدعوا غيرهم فيظنوا أنهم ستروا كفرهم وهو مكشوف لمن يخدعونهم ، وأن المؤمنين يعاملونهم بما يظهرون حتى يكون يوم الدين ، فهم المخدوعون ؛ لأنهم يعاملون كأنهم مسلمون حتى ينكشف أمرهم ، ولكنهم لا يشعرون ، أي لا يحسون بأنهم مخدوعون مغرورون وأمرهم بين . والله من ورائهم محيط .
وإن في ذلك القول الحكيم تصويرا دقيقا لحال المنافقين ، إذ إنهم لفرط ضلال نفوسهم ، وفقدهم الإيمان تفسد مداركهم ، وتضل أفهامهم ، فيحسبون أمرهم خفيا على غيرهم وما هو بخفي ، وتأخذهم عزة النفاق ، فلا يدركون ويستمرئون كذبهم ونفاقهم ، حتى يغتروا فيحيط بهم الضلال وهم لا يشعرون .