بعد أن بين سبحانه وتعالى حال المتقين ثم حال الكافرين ومآلهم ، بين الله سبحانه وتعالى حال الحائرين بين الحق والباطل ، وبين العداوة وإظهار المودة ، وهم المنافقون . وقد ذكرهم سبحانه وتعالت كلماته في ثلاث عشرة آية ، لتنوع أعمالهم ، وتغير أحوالهم ، بسبب حيرتهم ، ونفاقهم ، وأوهامهم المضلة .
ابتدأ سبحانه وتعالى بيان حالهم . يقول تعالى عنهم:{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} نقل سبحانه وتعالى قولهم بقوله:{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} .
الناس أصلها الأناس ، ويعبر بالناس في هذا بأنهم ليس لهم من الصفات إلا الوصف الآدمي الأصلي وهو أنهم ناس من الناس ، فلا يقال متقون ، ولا يقال مؤمنون ، ويقال كافرون فقط ؛ لأن لهم لونا اختصوا به ، وهو أنهم كافرون ، أما هؤلاء المنافقون ، فإنهم حائرون ، فلا يعبر عنهم إلا بأنهم ناس ، لا دين لهم ولا خلق ، وليس معنى ذلك أنهم خير حالا من الكافرين ، بل هم أشد كفرا ، وأبعد إيغالا في الشر ، وأكثر فسادا ، وإذا كان في الكافر وضوح ، فهو يعلنه ، فأولئك كافرون يبهمون ويجبنون ، ولا يصارحون .
ولم يذكرهم الله تعالى في الذين لا يجدي فيهم إنذار نذير ، وأن الله تعالى ختم على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ، لم يذكرهم الله في أولئك ، وإن كانوا داخلين فيهم ؛ لأنهم جمعوا مع هذه الأوصاف أوصافا أخرى ، فكانوا أشد عند الله مقتا ، وأبعد في الفساد والأذى ، ذلك أنهم زادوا المراءاة والاستهزاء بالمؤمنين ، وبث روح الفشل فيهم ، وموهوا ، وعادوهم أشد من عداء الآخرين ، وحاربوا في العقيدة والفساد بأشد مما حاربوا فكانوا يحاربون بالعداوة يسرونها فتكون أفعل وبإشاعة التردد وبث روح الهزيمة عند الإقدام ، وبإشاعة المآتم والمفاسد في الذين آمنوا .
هنا يسأل سائل:كيف ينفى عنهم وصف الإيمان ، وقد كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، كما قال تعالى:{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . . . ( 146 )} [ البقرة] وأنهم كانوا يستفتحون على المشركين بنبي جاء أوانه ، وأدركهم زمانه . كما قال تعالى:{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . . . ( 89 )} [ البقرة] .
وإذا كانوا كذلك فهم يعرفون النبي ! فكيف يكون قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر ، ليس فيه إيمان ، ومنفي بقوله تعالى:{ وما هم بمؤمنين} ؟ ونقول في الجواب عن ذلك:إن الإيمان ليس هو المعرفة المجردة ، إنما هو التصديق والإذعان والتسليم ، وهؤلاء مع معرفتهم الحق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا مع اليهود ، فلم يذعنوا ولم يسلموا ، ولم تصل المعرفة إلى تصديق ؛ ولذلك نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عنهم بقوله تعالى:{ وما هم بمؤمنين} أي ليسوا مؤمنين . واليوم الآخر وهو يوم القيامة ، وما يجري فيه من حساب ثم ثواب أو عقاب .
فالله سبحانه وتعالى أكد نفي إيمانهم بالجملة الاسمية ، أي أنه سبحانه نفى الإيمان وأصله عن ذواتهم ، كما أكدوا هم في نفاقهم الإيمان بالله ، وباليوم الآخر ، بتكرار الباء في بالله وباليوم الآخر .
وهنا إشارة بيانية إلى أن المنافقين ليس من شأنهم الإيمان بشيء ؛ لأن الإيمان بشيء من الأشياء يقتضي الإذعان والتصديق والتسليم ، والعمل بموجب الاعتقاد والاستجابة ، والمنافق قلبه غير مستقر ، ولا مطمئن إلى شيء ، وهو قلب خاو ، والحقائق تتردد فلا تسكن ، ولا تدفع إلى عمل ولا اطمئنان ، فلا يؤمن بشيء ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:( مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين ، لا تدري إلى أيهما تذهب ){[50]} ، وقال تعالى في وصفهم:{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . . . ( 143 )} [ النساء] ومهما تكن حالهم فهم أشد الكفر عنادا وعنتا وخبثا ومقتا عند الله ورسوله ، وعند الناس أجمعين .