/م8
ولذلك قال تعالى في بيان حالهم{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} ولم يقل عنهم .إنهم يقولون مع ذلك"وآمنا بك يا محمد "وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية ، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس .
نعم إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوليا وتصف حالهم وصفا مطابقا ، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة ، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعي أنها على دين ، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة – مع أن منهم الذين يدعون ذلك – لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك ، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز .
قد يقال:كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر كمنافقي اليهود ، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر"ما "فقال{ وما هم بمؤمنين} أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين ألبتة .وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله وباليوم الآخر ؟ والجواب:أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم ، فلو حصّل ما في صدورهم ، ومحص ما في قلوبهم ، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم ، لوجد أن ما كن لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس ، وحب السمعة ، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور ، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة ، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به ، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه ، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه ، لأنه مهيمن على السرائر ، وعالم بما في الضمائر ، فيرضيه بظاهره وباطنه .بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك .ولذلك قال فيهم:{ يخادعون الله والذين آمنوا} .